شباب فلسطين ليسوا أقل شجاعة ووعياً

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحالة الفلسطينية ليست استنساخاً كاملاً عن أخواتها العربيات، إلا في عمق الرغبة الشعبية في التغيير، بين أولوية النضال من أجل إنهاء الانقسام، وأولوية النضال من أجل إنهاء الاحتلال، على خلاف الجاري في الكثير من البلدان العربية التي تخرج الجماهير فيها للمطالبة بالحريات وإسقاط النظام السياسي.

على أن كافة المجموعات الشبابية الفلسطينية اتفقت على رفع شعار إنهاء الانقسام باعتباره عقبة خطيرة في حال استمراره، ومن حيث كون الانقسام يعرقل توفير العوامل والإمكانيات الضرورية لتصعيد النضال ضد الاحتلال.

الخامس عشر من مارس، كان يوم الخروج الفلسطيني إلى الشوارع في قطاع غزة والضفة الغربية، غير أن رايات العلم الفلسطيني التي ميزت الحشد للمرة الأولى منذ سنوات، ما كان لها أن تزيح الرايات الفصائلية، حيث انفردت حركة حماس في رفع راياتها، إلى جانب العلم الفلسطيني، الأمر الذي بدا وكأنه ينطوي على اصطفاف يوازي الاصطفاف الذي تتميز به اللوحة السياسية.

انقضى نصف اليوم الأول، على حشود تضمنت عشرات الآلاف من الشبان، مع تمايز في نوع الانتماء التنظيمي حققته الرايات المختلفة، لينتهي ذلك اليوم بتحول المظهر السلمي الحضاري إلى ساحة معركة في ساحة الكتيبة بغزة، في الشوارع المؤدية إليها، بين من يستخدم العصي لقمع المتظاهرين وبين الشبان الذين كانوا يتلقون الضربات الموجهة، لترسل بعشرات منهم إلى المستشفيات.

ومثلما هو الحال بالنسبة للثورات الشعبية التي اندلعت في بعض البلدان العربية، فإن الشباب الذي يخرج إلى الشارع للمطالبة بشعارات الحرية وإسقاط النظام، لا يمكنه أن يعود إلى البيت مهزوماً، أو مكتفياً بالقليل من الوعود والإصلاحات، لأنهم في حال عودة الهدوء، سيتعرضون إلى القمع الشديد والملاحقة من أنظمة بنيت واستمرت على العنف والقهر ضد جماهيرها.

المشكلة هنا هي أن الشباب الفلسطيني الذي خرج إلى الشوارع رافعاً شعار إنهاء الانقسام، ومصمماً على الاستمرار حتى تحقيق الهدف، هذا الشباب لا يطالب بإسقاط أي نظام أو فصيل، كما أنه يحرص على أن لا يظهر منحازاً لهذا الطرف أو ذاك.

ولكن، وعلى الرغم من استمرار الشباب الفلسطيني في تحدي آلة القمع الداخلي، وفي تجاوز ظاهرة الخوف من القمع، إلا أن هدف إنهاء الانقسام على ما يبدو، أكثر صعوبة من تحقيق هدف إسقاط النظام السياسي في بعض البلدان العربية.

وفي الواقع فإن الشباب الفلسطيني ما كان ليقرر الخروج إلى الشارع، لولا أنه بلغ حد اليأس والإحباط إزاء مرور المزيد من الأيام والأشهر والسنوات على حالة الانقسام والصراع، التي تنهش عوامل الصمود الداخلي في مواجهة احتلال لا يتوقف عن ممارسة عدوانه، فضلاً عن أن هذا الانقسام فعلياً أدى إلى تعميق وتوسيع ظواهر البطالة والفقر، والتهميش الاجتماعي وتدمير مقومات القوة الفلسطينية سواء المادية أو القيمية.

الاحتلال عبر عن قلقه الشديد إزاء خروج الشباب الفلسطيني الذي تجاوز عجز الفصائل والأحزاب السياسية التي فشلت في ترميم البيت الداخلي، فتحقيق الوحدة الوطنية والمصالحة يشكل خطراً على سياسات ومصالح الاحتلال وأهدافه، بالإضافة إلى أن إنهاء الاحتلال قد يؤدي إلى اندلاع ثورة شعبية سلمية تستلهم الثورات الشعبية العربية، من شأنها أن تزيد من عزلة إسرائيل وتجنيد المزيد من التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية وشعبها.

غير أن الغريب في الأمر هو أن أصحاب المصلحة في وجود واستمرار حالة الانقسام، قد عبروا هم أيضاً عن قلقهم من حركة الشارع الفلسطيني، فبادروا إلى احتوائها بدايةً ثم إلى قمعها حين لم تنجح محاولات الاحتواء، متسترين بانشغال وسائل الإعلام العربية والدولية في مجريات الأحداث الكبرى في ليبيا واليمن والبحرين ومصر وتونس ولاحقاً في سوريا.

وبالمعنى السياسي يمكن القول إن طلائع التحرك الشبابي الفلسطيني رغم أنها تتواصل بالزخم الشعبي الذي بدأت به، إلا أنها دقت أجراس الإنذار لدى القيادات السياسية، إذ أعلن إسماعيل هنية رئيس الحكومة المقالة في غزة، دعوة حركة فتح إلى حوار شامل في أي مكان لإتمام المصالحة، رد عليه في اليوم التالي الرئيس محمود عباس بمبادرة ذات بعد إجرائي عملي حين أعلن أنه مستعد للذهاب إلى غزة لا للحوار وإنما للإعلان عن إقامة حكومة من المستقلين تكون مهمتها التحضير لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية وللمجلس الوطني الفلسطيني في غضون أشهر قليلة، فيما بدا الشارع متفائلاً إزاء مبادرتي هنية وعباس، وراح يتناقل الأخبار بشأن موعد زيارة الرئيس.

لكن الأمل قد تضاءل شيئا فشيئاً، فالكلام عن المصالحة والوحدة عبر وسائل الإعلام يتناقض تماماً مع السلوك على الأرض الذي يشهد على استمرار حملات التحريض الإعلامي ومواصلة القمع والاعتقالات السياسية وملاحقة الشباب، واستمرار حالة الصراع الداخلي والتوتر في العلاقات بين أطراف الجسم الوطني.

والحقيقة أن الفلسطينيين ما عادوا ينخدعون بالكلام المعسول حول الوحدة والمصالحة والمصلحة الوطنية، وباتت تستفزهم الدعوات لحوار طال كثيراً دون أن ينتج سوى المزيد من الانقسام والصراع، ولذلك فإنهم يواصلون التحفيز لموجات جديدة من الاحتجاجات التي يقودها الشباب.

وعدا عن غياب الإرادة لدى القيادات الانقسامية للتحول عن نهجها وفي ظل انشغال مصر بأوضاعها الداخلية وأيضاً انشغال الأنظمة العربية عموماً بمجريات الأحداث في المنطقة، فإن الشباب الفلسطيني يستلهم هذه المرة تجربة الشباب العربي ليتقدم نحو حمل المسؤولية بهدف توليد ضغط شعبي داخلي يكفي لإقناع وإرغام القيادات السياسية على الذهاب إلى حوار سريع يؤدي إلى إنهاء الانقسام وتحقيق اتفاق بشأن إعادة بناء الوضع الفلسطيني على أسس جديدة من الوحدة، قبل أن تصبح هذه الوحدة مثل أمل «إبليس في الجنة».

على أن ثمة طرفا قويا آخر يتربص بالفلسطينيين وآمالهم، إذ ما ان أطلق الرئيس عباس مبادرته العملية التي تنطوي على قدر من الجدية، حتى صب مكتب نتانياهو جام غضبه على الرئيس الفلسطيني متهماً إياه بمحاولة إعطاء الشرعية الدولية لحماس مرة أخرى و«بأن عباس يرفض التفاوض مع الحكومة الإسرائيلية لإحلال السلام ويريد إحلال السلام مع حماس التي تعتبرها إسرائيل العدو الأكبر للسلطة ولإسرائيل سوياً».

وبالتزامن صعدت إسرائيل من عدوانها على قطاع غزة بهدف قطع الطريق على إمكانية تحقيق المصالحة من ناحية، وللتغطية على التحركات الشبابية الناشطة لإنهاء الانقسام، الأمر الذي يؤكد لمن لا يريد أن يقتنع، بأن إسرائيل هي صاحبة المصلحة في استمرار الانقسام الفلسطيني، لكن هذا التصعيد أيضاً يخدم أصحاب المصلحة في الانقسام من الفلسطينيين الذين لم ترق لهم المبادرات التي تستعر نحو رأب الصدع. هكذا تتلاقى المصالح وتفترق، وقد عزم الشباب الفلسطيني على أن يعيدوا بناء المشهد الفلسطيني على نحو يستجيب للبيئة العربية المتحولة نحو التغيير.

Email