مصر وتونس.. دروس واستخلاصات

ت + ت - الحجم الطبيعي

لعل الرئيسين السابقين حسني مبارك وزين العابدين بن علي، لا يزالان مشدوهين حتى اليوم من فرط الاندهاش تجاه الفجائية في فوران الشارع، التي أودت بالنظام الحاكم في كل من مصر وتونس. فبعد ثلاثين عاماً من الاستبداد التسلطي في مصر وثلاثة وعشرين عاماً في تونس، لم تستغرق عملية الإطاحة بنظام مبارك ونظام بن علي سوى أيام معدودات.

يبقى سؤالان مرتبطان عضوياً: هل كان اندلاع الفوران الشعبي فجائياً حقاً؟ أم أنه كان وليد تراكمات من الغضبات المتتالية والمتصاعدة على مدى عقود زمنية؟

إذا كانت الإجابة هي أن التراكمات هي التي أفرزت مسلسل الغضبات وانفجار الفوران، فإن من شأن ذلك أن يحفزنا إلى استخلاص ما يمكن استخلاصه من دروس الثورة الشعبية بتداعياتها ونتائجها.

في مقدمة هذه الدروس أنه بالرغم من أن النداء الثوري في كل من مصر وتونس، تجاوبت معه بقوة وعنفوان كافة الطبقات والفئات الشعبية، من الكبار إلى الصغار ومن أهل المدن وأهل الريف ومن العمال إلى الفلاحين ومن الرجال إلى النساء، فإن مما لا شك فيه أن المبادرة الثورية الوطنية جاءت من جيل جديد من الشباب؛ جيل الثورة الإعلامية والثورة المعلوماتية، وإن شئت الاختصار فلنقل جيل الانترنت.

حتى مطلع عقد التسعينات من القرن المنصرم، كان الجيل العربي الصاعد أسير الوسائل الإعلامية الحكومية التي تخصصت في فن التضليل المعلوماتي، خاصة الوسيلة التلفزيونية. لكن حلول العقد التسعيني، كان إيذاناً بتدشين عصر إعلامي عربي جديد تماماً.

على نحو فجائي تبلورت ظاهرة القنوات الفضائية التي تبث بالأقمار الصناعية على نطاق عالمي، وعلى مدى أربع وعشرين ساعة يومياً. وبذلك صار العالم العربي مفتوحاً تماماً على ضخ تلفزيوني عارم، من جميع أنحاء المعمورة. ولم تكد تمضي بضع سنوات حتى شاع استخدام الانترنت، بما تشتمل عليه في مواقع التواصل الاجتماعي على مستوى عالمي.

إزاء هذه التحولات المدهشة، كان من الطبيعي أن تذوي وسائل الإعلام العربي الرسمي، ويبطل تأثيرها على أذهان ورؤى الجيل الشبابي الصاعد.

الطبقات الحاكمة لم تدرك هذا التطور الخطير ومغزاه، وبالتالي لم تدرك أن خطابها الإعلامي العتيق صار خارج الزمن وخارج مجرى التاريخ.

وهذا مما يفسر لنا جزئياً انهيار النظامين المصري والتونسي خلال زمن قياسي قصير. فقد تصدت المؤسسة الأمنية للمظاهرات والاحتجاجات، بأسلوب الترعيب التقليدي الذي ظلت على مدى عقود تتعامل به مع عناصر الأحزاب العتيقة، غير مدركة هذه المرة أنها تتعامل مع طلائع جيل جديد، يتمتع بأعلى درجات الوعي السياسي الذي يؤدي إلى تحييد نزعات الخوف. فبهذا المستوى الراقي من الوعي، كانت قيادات الشباب الثائر على قناعة موضوعية بأنه، بالرغم من أن النظام الاستبدادي يبدو قوي البنية، إلا أنه في حقيقة الأمر بالغ الهشاشة. فمثل هذا النظام تتآكل بنيته من الداخل مع مرور السنين، بسبب ممارسات الفساد المنهجي الذي ينهش قوائمه.

هذا يقودنا إلى الاستخلاص الثاني، وهو أن ظاهرة الفساد في الأنظمة الاستبدادية، تنشأ أصلاً من طبيعة التوجه العام للاقتصاد الوطني الذي ترسمه السلطة الحاكمة. وهنا نلاحظ تطابق الحالتين المصرية والتونسية في عهدي مبارك وبن علي، من حيث أخذهما بنظام مسخ لاقتصاد السوق الحرة، تتوقف فيه عملية الإنتاج المخطط طويل المدى، لصالح اقتصاد المضاربات وعمليات الخصخصة.

وبينما يؤدي وضع كهذا إلى توقف عجلة العمل التنموي عن الدوران، فإنه يفسح المجال لممارسات الفساد من قبل شخصيات وجماعات تتمتع بدعم سياسي من المستويات العليا للسلطة الاستبدادية. هكذا جرى تكوين الثروات غير المشروعة، التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات.

الثورة في كل من مصر وتونس، لم تكن رغم فجائيتها حدثاً معزولاً وعابراً. ما كان فجائياً حقاً، هو أن مبادرتها جاءت من الجيل الشبابي الذي لم يكن معروفاً في مسرح الحياة السياسية المصرية.

طوال العقود الزمنية الأخيرة، ساد على المستوى العالمي، بل والمستوى العربي، اعتقاد بأن الشعوب العربية لا تتحرك لأنها تتهيب مؤسسة السلطة الاستبدادية. وإن كان للثورة الشبابية في مصر وتونس فضل واحد، فهو أنها نسفت عملياً هذه الأسطورة.

 

Email