ماذا بعد الثورة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

تظاهرت الحشود وانتفض الشباب ونجحت الثورة وسقط النظام. وكان الهدف هو تغيير النظام والتخلص من الرموز ومن أذناب النظام، الذين نهبوا وسرقوا وساهموا في الفساد وفي تبذير المال العام. عهد جديد بكل المعايير والمقاييس؛ لكن هل هو حقا جديد؟ المتظاهرون يبحثون عن العدالة الاجتماعية وعن وظائف وعن حياة كريمة، شريفة. يبحثون عن توزيع عادل لثروات البلاد، وعن حكم رشيد وديمقراطية.

وعن حرية الرأي والتعبير وغيرها من الحريات الفردية. يبحثون عن مجتمع مدني قوي وفعال، وعن أحزاب سياسية قوية فعالة، وعن صحافة ومنظومة إعلامية تكون بمثابة السلطة الرابعة لمراقبة السلطات الأخرى، وبمثابة منبر حر للرأي والرأي الآخر وللنقاش والحوار، يمكن مفردات ومكونات وفئات وشرائح المجتمع من التمتع بسوق حرة للأفكار.

سقط النظام والشباب ينتظر الوظائف والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. مطالب معقولة ومنطقية، لكن لا يمكن تحقيقها بين عشية وضحاها، ولا خلال شهر أو شهرين. الأمر يتطلب وقتا أطول، لإصلاح سنوات الفساد والرشوة والمحسوبية والواسطة، وسلبيات كثيرة جدا انتشرت وأصبحت نمطا حياتيا في المجتمع. صحيح أن الثورة وضعت حدا للفساد وسوء الإدارة والتسيير، لكن عملية البناء ليست كعملية إسقاط النظام، وعملية بناء المجتمع المدني والأحزاب السياسية والمعارضة كذلك، لا تتأتى في غضون شهور أو بضع سنوات؛ الأمر في غالب الأحيان يتطلب وقتا وانضباطا وصرامة وعملا ومثابرة وأخلاقا والتزاما... الخ.

يخطئ من يظن أنه بمجرد سقوط النظام، ستتحسن الأمور وتسود الديمقراطية والرفاهية والازدهار والاستقرار والأمن والطمأنينة. العمل الجاد والحقيقي والشاق بدأ بسقوط النظام، وبدأ بعد المظاهرات والمسيرات التي أدت إلى انهيار النظام. لقد حان الوقت للعمل الجاد والتخلص من رواسب النظام البائد عبر عقود من الزمن.

فالمهمة تتمثل في الإصلاح والتطهير من جهة، والبناء والتشييد من جهة أخرى. والإصلاح يشمل الفرد والعائلة والمؤسسة والمجتمع ككل، كما يشمل النظام السياسي بمكوناته الهيكلية والتنظيمية والتشريعية والمؤسساتية. فالفرد يجب أن يكون ديمقراطيا في سلوكه وتصرفاته، كما يجب أن يكون مسؤولا وملتزما ومواطنا صالحا يعرف حقوقه وواجباته، ويجب أن يسأل نفسه على حد قول الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي «اسأل نفسك ماذا تستطيع أن تقدم لأميركا، ولا تسأل عن ماذا تستطيع أميركا أن تقدمه لك». فالفرد في عهد ما بعد الثورة، يجب أن يكون مسؤولا ومنظما ومؤطرا ومهيكلا، ويشتغل وفق أطر معينة واستراتيجية محددة.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام، هو هل مستلزمات وشروط النهضة والتطور والديمقراطية متوفرة؟ أم أنه يجب العمل على توفيرها حتى تتحقق أهداف الثورة؟

بناء المجتمع المدني يتطلب الوقت، ويتطلب العمل والمسؤولية والالتزام. والمجتمع المدني لا تقوم له قائمة إلا بالفرد الواعي والمواطن الصالح، الذي يعمل ويكد ويجتهد من أجل المصلحة العامة التي تعلو وتفوق أي اعتبار. المجتمع المدني يجب أن يكون واعيا ومدركا لظروف المجتمع واحتياجاته وأمور البلاد والعباد، فالمجتمع المدني بمؤسساته وتنظيماته، هو الذي يوّجه المجتمع العام في الاتجاه السليم، وهو الذي يحرص على معالجة الأخطاء والتجاوزات، وهو الذي يسهر على محاربة الفساد والرشوة والمحسوبية، وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية التي انتشرت في عهد ما قبل الثورة.

وأصبحت جزءا من الحياة اليومية للمواطن الذي أصبح يتعايش معها وكأنها شيء عادي طبيعي، وقضاء وقدر يجب أن نقبله ونحمد الله على وجوده. فالدول التي خطت خطوات كبيرة في الديمقراطية والحكم الرشيد ومشاركة المواطن في تحديد مصيره وفي صناعة القرار، هي التي تنعم بمجتمع مدني واع ومستنير وديناميكي وفعال.

يجب على الأحزاب السياسية كذلك إعادة هيكلة وتنظيم نفسها، وفق المعطيات الجديدة ووفق العهد الجديد. فأحزاب الشعارات الفارغة وأحزاب الانتهازية والمصالح الخاصة، أو أحزاب التواطؤ مع السلطة، ولّى زمنها ووقتها وأصبحت من الماضي، ويجب أن تتم تصفيتها كما حدث للنظام. فالحزب السياسي هو مؤسسة تجمع أشخاصا جمعتهم مصالح معينة وأهداف محددة، وفق أيديولوجية يؤمن بها كل من ينتمي إلى الحزب ويناصره. و

هذا يعني أن الحزب يجب أن يتمتع بمبادئ وقيم وأخلاق، بهدف المساهمة الإيجابية في خدمة مصالح الوطن والمواطن ومحاربة الفساد في المجتمع. أحزاب ما قبل الثورة مع الأسف الشديد، كانت جزءا من النظام وطرفا في الفساد والتزوير والتضليل... هذا النوع من الأحزاب لا يصلح إطلاقا لمرحلة ما بعد الثورة، ولا يصلح لعهد جديد من المفروض أن يؤسس على الشفافية والديمقراطية.

والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد ومحاربة الفساد والبيروقراطية والمحسوبية. وعلى المنظومة الإعلامية كذلك أن تبدأ عهدا جديدا يتميز بالاستقصاء والبحث عن الحقيقة، والكشف عن الأخطاء والسلبيات والتجاوزات، ومراقبة السلطات الثلاث التي يجب أن تُحاسب على أعمالها وأنشطتها أمام الشعب. صحافة البلاط وصحافة المدح والتبجيل والتملق انتهى عهدها، والمرحلة تحتاج إلى إعلام يتماشى ومتطلباتها واحتياجاتها.

ما ينتظر المجتمع التونسي والمجتمع المصري، هو ثورة جذرية وثورة شاملة في الحياة الجمعوية والمنظومة الحزبية السياسية، والمنظومة الإعلامية. فلا ديمقراطية ولا اقتصاد قويا أو حكما رشيدا، دون تكاتف جهود وأعمال هذه الجهات الثلاث. فلا ديمقراطية دون مجتمع مدني فعال وقوي، ولا ديمقراطية دون حرية سياسية وأحزاب قوية ونشطة وفعالة، ولا ديمقراطية دون إعلام نشط وفعال يستقصي ويبحث ويكشف ويوفر منبرا للرأي والرأي الآخر وسوقا حرة للأفكار.

أمر التغيير والتطهير والبناء والتشييد، يتطلب الوقت والعمل، ويتطلب الصبر وعدم التسرع. وهذه المنظومات الثلاث لا نستطيع توفيرها والحصول عليها في أسابيع أو أشهر أو حتى سنوات قليلة. فبناء الديمقراطية هو عملية تتطلب التضحية والعمل من الجميع، وفق أطر ومناهج وسياسات واستراتيجيات محددة.

وهذا يعني الرشد والتخطيط والمنهجية على مختلف الصعد، سواء تعلق الأمر بالاقتصاد أو بالتعليم أو بالحكم أو بالسياسة أو بالإعلام. كما تتطلب عملية بناء الديمقراطية، الفرد الواعي والمسؤول والملتزم والصالح، والمؤمن حقا بالديمقراطية وبالفعل الديمقراطي في المجتمع.

تحديات كبيرة في انتظار عهد ما بعد الثورة في تونس ومصر. انتهت معركة التخلص من النظام والإطاحة به، وبدأت مرحلة أهم بكثير من المرحلة الأولى، وهي مرحلة التطهير والبناء وإعادة صياغة مستلزمات وشروط الديمقراطية والحكم الراشد. مرحلة تتطلب الوقت والجهد والتخطيط الاستراتيجي، والسلوك الديمقراطي من قبل الجميع وعلى مختلف الصعد.

Email