أضغاث أحلام اسمها «الكتاب الأخضر»

ت + ت - الحجم الطبيعي

داخل خيمة في الصحراء غير بعيد عن العاصمة الليبية طرابلس، أصغى «القائد الأممي» معمر القذافي إلى الصادق المهدي زعيم تجمع المعارضة السودانية في الخارج، وهو يشرح له تفاصيل خطة للإطاحة بنظام الرئيس نميري في الخرطوم، بتمويل ودعم ليبي.

كان ذلك في عام ‬1976 حين كانت طرابلس مقراً لقيادات المعارضة: المهدي عن «حزب الأمة».. والشريف حسين الهندي عن «الحزب الاتحادي الديمقراطي».. بالإضافة إلى شخصيات قيادية في الحركة الإسلامية (لم يكن من بينهم حسن الترابي). وكانت الخطة تقضي بشن حملة قتالية لقوات المعارضة المدربة، تعبر الحدود الليبية السودانية متجهة صوب الخرطوم.

سأل القائد الأممي الزعيم السوداني: ما نوع الحكم الذي تعتزمون إقامته بعد إسقاط نظام نميري؟

أجاب المهدي: بطبيعة الحال سوف نستعيد النظام الديمقراطي التعددي الحزبي، بما في ذلك الحريات المدنية واستقلال القضاء وفصل السلطات.

هنا تجهم وجه القائد الليبي، فتساءل في غضب: وأين مكان «الكتاب الأخضر»؟!

على أن القذافي لم يشأ أن يستطرد في هذا السياق الغاضب، خشية استفزاز حلفائه من قيادات المعارضة السودانية فتفشل خطة الهجوم الموضوعة.. فقرر في ما يبدو إرجاء مسألة الكتاب الأخضر إلى ما بعد الإطاحة بنظام الرئيس نميري. لكن خطة الغزو انتهت إلى الفشل فعلاً، مما أدى إلى تفكك الحلف الذي عقده القذافي مع قادة أحزاب المعارضة السودانية.

لقد كان معمر القذافي يحلم بإنشاء إمبراطورية إفريقية يتخذ من نفسه زعيماً تاريخياً لها، على أن يكون الكتاب الأخضر دليلها النظري. ذلك أن منزلة الكتاب الأخضر، الذي أطلق عليه أيضاً «النظرية الثالثة»، كانت عنده بمنزلة كتاب «رأس المال» لكارل ماركس لدى أنصار النظام الاشتراكي الشيوعي، ومنزلة كتاب «ثروة الأمم» لآدم سميث لدى أنصار النظام الرأسمالي. وعلى هذا المنوال أراد الزعيم الليبي أن يجعل من السودان الحلقة الأولى لإمبراطورية الكتاب الأخضر.

وهذا الحلم الطوباوي، يمثل لنا لماذا وقعت خطط القذافي وتحركاته الخارجية في تناقضات فاضحة. فقد عقد، أولاً، تحالفاً مع الرئيس نميري لضرب وتصفية أحزاب المعارضة السودانية، لكنه في مرحلة لاحقة تحالف مع قيادات هذه الأحزاب لتصفية نظام نميري نفسه.

لكن إذا تمعنا في الأمر، فإننا قد نكتشف أنه في الحقيقة لم يكن هناك تناقض مبدئي، ففي الحالتين كان القذافي يهدف إلى فرض نظام «النظرية الثالثة» على السودان وتحت قيادته. لقد فشل في إقناع نميري، فقرر التوجه إلى خصوم نظام نميري.

نظام الرئيس نميري سقط أخيراً في عام ‬1985، لكن ليس بسبب تدخل ليبي، وإنما بسبب انتفاضة شعبية داخلية. وبسقوط النظام، استعاد السودان النظام الديمقراطي الحزبي التعددي. وبعد أن أسفرت انتخابات عامة أجريت في العام التالي، عن فوز حزبي المهدي والميرغني وإنشاء حكومة ائتلافية، تراءى للقذافي أنه برزت فرصة أخرى لإدخال مشروع الكتاب الأخضر الإمبراطوري، استثماراً لتسلم حلفائه السابقين زمام السلطة. لكنه مرة أخرى لم يحظ بتجاوب.

فالحكومة الحزبية الجديدة كانت آنذاك منشغلة بهاجس واحد، هو تجدد الحرب التي اشتعلت في الجنوب منذ عام ‬1983، بقيادة «الحركة الشعبية لتحرير السودان» التي تزعمها جون قرنق. ومع ذلك لم ييأس القذافي من مسعاه الحثيث لاسترضاء القادة الحزبيين الشماليين، فقد تحولت ليبيا إلى مركز إمدادات السلاح الرئيسي للقوات المسلحة السودانية. في هذه الأثناء قرر الزعيم الليبي أن يجرب خط الكتاب الأخضر أيضاً في تشاد، التي تتلاصق حدودها مع كل من ليبيا والسودان. وفي غضون سنوات قلائل تورطت ليبيا القذافي سياسياً وعسكرياً في الشأن التشادي الداخلي، حيث ساهمت في تدبير انقلابات.. وانقلابات مضادة، وإمداد فريق بالسلاح ضد فريق آخر.

وبالنظر إلى أن هناك قبائل كبرى موزعة جغرافياً عبر الحدود بين تشاد والسودان، فإنه كان من الطبيعي أن تصل إمدادات من الأسلحة الليبية إلى مجموعات قبلية سودانية.. الأمر الذي أدى إلى بروز حركات سياسية مسلحة في إقليم دارفور السوداني المحاذي للحدود مع تشاد.

هكذا وبسبب طموحات الزعيم الليبي، نشأ الوضع الأمني المعقد الذي نراه اليوم متمثلاً في القتال في دارفور، والتوتر الدائم بين السودان وتشاد. استناداً إلى كل هذا السرد، يبقى سؤال كبير: ما هي الهوية التي يدخل بها العقيد القذافي التاريخ؟

العظماء يدخلون التاريخ إما كمفكرين إيديولوجيين مثل ماركس وآدم سميث، أو عباقرة في الاستراتيجية الجيوسياسية مثل عبدالناصر.أما القذافي فلا حظ له من هذا أو ذاك؛ فالكتاب الأخضر ليس سوى أضغاث أحلام ساذجة.. وفكرة الإمبراطورية الإفريقية بقيادة ليبية ليست سوى عبث.

 

 

Email