نحو تطوير الفكر الإنساني

ت + ت - الحجم الطبيعي

الثورات الشعبية التي تجتاح العديد من الدول العربية، والتي لم تمارس بعد على حال لا فيما سيتصل بطبيعة وحجم وعمق التغييرات، ولا فيما يتصل بالجغرافيا، تقدم للبشرية والفكر الإنساني دروساً كبيرة، ذات أبعاد تاريخية، من المبكر استخراج كامل دروسها، ولكن ما مر منها حتى الآن يكفي التأكيد على بعض معالمها.

يدور الحديث عن استخلاصات من طبيعة تجديدية:

الأول يتصل بالقوى المحركة للثورة أو عمليات التغيير الكبرى، استناداً للنظريات الاجتماعية التقليدية المعممة فإن ملاك الأراضي هم الذين قاموا بالثورة والتغيير على نظام المشاعية البدائية، التي دشنت عصر النظام الإقطاعي وتحملت أعباء الانتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي، فقد كانت فئة التجار وأصحاب الورش والمصانع الصغيرة، وذلك بعد أن أصبحت طبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة، تشكل قيداً كبيراً على إمكانيات وآفاق تطور القوى المنتجة.

لم تكن طبقة الفلاحين، أو العبيد، الذين طحنهم الإقطاعيون، هم من قاموا بالثورة، فلقد فشلت ثورة العبيد التي قادها سبارتاكوس، والعديد من الثورات الأقل شأناً، لكن الملايين من هؤلاء خرجوا ساعين لنيل حريتهم، تحت قيادة فئات اجتماعية لم يكتمل تشكلها بعد في ذلك الحين.

النظرية الاشتراكية تقوم على فرضية أساسية ومحورية، وهي أن عمال المصانع والمشاغل والورش الصناعية، هم نقيض البرجوازية، وهم الذين يملكون مؤهلات قيادة وإدارة عمليات التغيير الثوري في بلدانهم. الفرضية تقوم على اعتبار أن هؤلاء العمال يخضعون لآليات استغلال بشعة لقوة عملهم، وأن الشعور بالظلم والاضطهاد يولد لديهم طاقة ثورية عظيمة، فضلاً عن أن وجود الآلاف منهم في أماكن العمل يسهل عليهم إمكانية تنظيم أنفسهم، وخوض نضالاتهم من أجل تحسين ظروف عملهم وحياتهم في البداية، ثم القيام بالثورة، على اعتبار أن الرأسمالية لا يمكن أن تغادر طوعاً طبيعتها الاستغلالية.

ولأن الصناعة في المجتمعات الحديثة هي عماد اقتصاديات الدول، فإن العمال هم المرشحون لقيادة عملية التغيير نحو نظام اشتراكي عادل، وليس الفلاحون الذين يفتقدون بطبيعتهم للمزايا الثورية التي تتسم بها الطبقة العاملة، ويكفيهم أن يكونوا حلفاء للعمال دون إشراكهم في قيادة الثورة المفترضة.

الدرس الذي تقدمه الثورات الشعبية العربية يؤكد أنه في زمن العولمة، والتقدم التكنولوجي الهائل والمتسارع، وقدرة الرأسمالية على رشوة قيادات ونخب الطبقات العاملة، فإن الشباب هم المؤهلون للنهوض بعملية التغيير.

بخلاف الطبقة العاملة، فإن الوعي لدى الشباب يأتي من داخلهم وليس من خارجهم، وهم أيضاً يتواجدون بالآلاف في الجامعات والمعاهد والكليات، وهم الأكثر جرأة وشجاعة والباحثون عن مستقبل ينتظرهم، فضلاً عن أنهم الأقدر على استخدام وسائل العصر، وأن أغلبيتهم الساحقة تنحدر من أصول طبقية فقيرة أو تنتمي إلى الطبقات الوسطى، التي تستهدف الأنظمة الرأسمالية تفتيتها، والقضاء عليها.

الاستخلاص الثاني يفيد بأن الأحزاب السياسية لم تعد بالضرورة هي صاحبة الوكالة الحصرية لقيادة عمليات التغيير. في الحالات التي تحققت حتى الآن، ونقصد مصر وتونس، يلاحظ المرء أن المبادرة للثورة لم تأت من الأحزاب السياسية لا المصرح لها بالعمل ولا المحظورة، وأن تلك الأحزاب التحقت بحركة الجماهير بعد تردد، وحاولت لاحقاً ركوب موجات التغيير واستثمارها لصالحها.

ولقد أظهرت التجربة العيانية أيضاً أن تلك الأحزاب بمختلف مسمياتها، وأيديولوجياتها، وتراكيبها الاجتماعية، تحمل عبر تجاربها بعضاً من سمات النظام الذي تعارضه، فمعظمها أحزاب غير ديمقراطية، وقياداتها تتسم بالثبات في مواقفها لفترات طويلة، وأن الكثير منها تسربت إليه المصلحية والذاتية، وروح المهادنة والإصلاح.

لقد هرعت الأحزاب السياسية أو الكثير منها في تونس ومصر، لتلبية الدعوات التي أطلقتها الأنظمة من أجل الحوار، ثم انكفأت وعادت لتبني شعارات الجماهير الموجودة في الشوارع، بعد أن أدركت أن الحركات الاجتماعية الثائرة قد تركتها إلى الخلف، وأنها من المرجح أن تتجاوزها.

وهكذا فإن على أنظمة الحكم كما على الأحزاب السياسية الساعية للتغيير والوصول إلى السلطة، أن تأخذ بعين الاعتبار وبشكل جدي جداً، الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه منظمات المجتمع المدني، والحركات الاجتماعية، وخصوصاً الحركات الشبابية، وأن هذه يمكن أن تتجاوزها، وأن تحجم أدوار الأحزاب، وتملي عليها ضرورة إدخال إصلاحات حقيقية على برامجها ومنظوماتها الفكرية وآليات عملها.

إن من ينادي بالتغيير والديمقراطية وإطلاق الحريات، عليه أن يتمثل داخل حزبه ومنظمته هذه القيم والشعارات، وإلا تجاوزته حركة التاريخ، إذ من غير المعقول أن يناضل حزب ما من أجل تغيير رئيس أو ملك أو حاكم مضى عليه في الحكم سنوات طويلة، فيما يعاني الحزب من المرض ذاته، حيث يمضي الكثير من زعماء الأحزاب فترات أطول على رأس أحزابهم من بعض الزعماء السلطويين.

الاستخلاص الثالث يفيد أن سلطة الإعلام التي تصنف على أنها السلطة الرابعة، لم تعد تقيم في ذلك الموقع، والترتيب، وأنها إذا ما امتلكت خصائص الإعلام الموضوعي الساعي للتغيير، فإنها يمكن أن ترتقي إلى أعلى درجات السلم، وأن أعتى السلطات لم تعد قادرة على إلحاق الهزيمة بالإعلام الحر، ولا على حجب دوره عن الجمهور.

وفي الواقع وبسبب غياب أو تغييب دور بعض السلطات التي تسبق وفق الترتيب الكلاسيكي موقع السلطة الإعلامية، كغياب القضاء المستقل مثلاً، أو غياب المجالس النيابية المنتخبة أو التي تمثل الشعوب بشكل حقيقي، فإن الإعلام بسلطته وجبروته وهيبته حاضر في الميدان لملء الفراغ، ولإشغال مواقع متقدمة في سلم ترتيب السلطات. والإعلام لم يعد ناقلاً للخبر، أو أنه يكتفي بتفسير ما يجري من أحداث، وإنما هو تخطى هذه الوظائف التقليدية، إلى المساهمة الكبيرة في صناعة الأحداث، وتطويرها والمساهمة الفعالة في التنمية والتغيير، ونشر قيم الحرية والديمقراطية، والأهم أنه بات بفضل تقدم وسائل الاتصال قادر على التعميم، واختصار المسافة الزمنية إلى الصفر بين وقوع الحدث، ونشره.

وفي هذا الإطار أيضاً، تجدر الإشارة إلى أهمية توفر وسائل الاتصال السريعة والميسورة الحديثة كالإنترنت والمواقع الالكترونية التي باتت عنواناً للثورات الشعبية (ثورات الفيس بوك) حيث وفرت وسائل سهلة وسريعة للحوار وتحقيق التوافق، والتواصل الاجتماعي ومن ثم السياسي، والتنظيم لملايين البشر، الأمر الذي يتجاوز آليات عمل الأحزاب، وأيضاً يتجاوز قدرات الأجهزة الأمنية والشرطية والسلطوية على السيطرة، والتدخل.

ربما كانت كل أو بعض هذه الاستخلاصات موجودة كأفكار لدى البعض، أو حتى كوقائع وتوقعات، لكن للثورات الشعبية العربية الفضل في تحقيقها عبر التجربة الملموسة، وتأكيد صوابيتها، ومنها تصريح العبور نحو التعميم، وتطوير النظريات الاجتماعية والفكر الإنساني بصفة عامة.

كاتب فلسطيني

Email