من التاريخ القريب.. القذافي واليسار السوداني

ت + ت - الحجم الطبيعي

«سقط اليمين وسقط اليسار»، القائل هو معمر القذافي زعيم الثورة الليبية. كان الزعيم الليبي يخاطب الشعب السوداني مباشرة في مطلع يناير ‬1970، تحديداً من «استاد» الخرطوم في مناسبة الاحتفال بذكرى استقلال السودان. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن، ظلت علاقة ليبيا القذافي تنقلب اضطراباً بين مد وجزر، بما يعكس اضطراب الذهنية السياسية لذلك الزعيم ذي الطراز الفريد.

بعبارة «اليمين» كان القذافي يقصد الأحزاب التقليدية الكبرى، خاصة حزب الأمة (الصادق المهدي) والحزب الاتحادي الديمقراطي (الميرغني). أما «اليسار» فقد كان كناية عن الحزب الشيوعي السوداني.

استهداف الأحزاب التقليدية كان مفهوماً آنذاك، فقد كانت تمثل العدو الأول الذي من أجل القضاء عليه قامت ثورة ‬25 مايو ‬1969 بقيادة جعفر نميري. أما الهجوم على الشيوعيين علناً، فقد كان سبب حرج لقيادة ثورة مايو، إذ كان عدد من كبار عناصر الحزب الشيوعي حينئذ حلفاء للنظام الثوري الجديد ويحتلون مواقع سلطوية مهمة.

في احتفال ذكرى الاستقلال في استاد الخرطوم، كان هناك زعيم عربي آخر هو جمال عبدالناصر. ولم يكن عبدالناصر أقل استشعاراً بالحرج، عندما كان القذافي منهمكاً في هجومه العلني الكاسح ضد الحزب الشيوعي السوداني. فقد كان يكن احتراماً للشيوعيين السودانيين، انطلاقاً من رؤيته أن تحالف القوى اليسارية السودانية هو الضمان الأوحد لتقدم ثورة مايو.

بعد ثمانية شهور من احتفال استاد الخرطوم، رحل جمال عبدالناصر عن الدنيا.. وبذلك فقد الشيوعيون السودانيون الحماية التي كان يوفرها لهم الدعم الناصري. وربما بدا أن جعفر نميري كان أشد الناس حزناً على رحيل عبدالناصر، لكن الأمر كان نقيض ذلك تماماً. فقد اتضح أن نميري كان يضمر عداءً راسخاً للشيوعيين، رغم ارتضائه التحالف معهم على الصعيد السلطوي، الذي كان يرى فيه مجرد تحالف «تكتيكي» مؤقت، للاستفادة من نفوذ الحزب الشيوعي في أوساط النقابات العمالية والمهنية، ومن ثم ضرب الشيوعيين في وقت مناسب.

وقد حان ذلك الوقت بوفاة عبدالناصر. هكذا وجد نميري نفسه في خندق واحد مع القذافي، في استهداف الشيوعيين السودانيين. أكثر من ذلك تولى السلطة الرئاسية في مصر أنور السادات الذي لم يكن أقل عداءً للشيوعيين من رفيقيه السوداني والليبي.

هنا رأى القذافي فرصة قرر أن ينتهزها، ففي أعقاب حفل لتأبين عبدالناصر في القاهرة، خلال نوفمبر ‬1970 حضره الرؤساء العرب، عقد الزعيم الليبي اجتماع قمة ثلاثياً مع نميري والسادات، وافق فيه الرئيس السوداني بطلب من القذافي وتأييد من السادات، على إقصاء ثلاثة أعضاء من مجلس قيادة الثورة السوداني.. اثنان منهما ينتميان إلى الحزب الشيوعي ـ المقدم بابكر النور والرائد هاشم العطا .

ـ والثالث هو الرائد فاروق حمد الله المتعاطف مع الشيوعيين. وواصل القذافي ضغوطه على نظام مايو لتصفية الوجود الشيوعي في السلطة بالكامل، إلى أن أتى له القدر بفرصة أخرى. ففي يوليو ‬1971 استولى هاشم العطا على الحكم بعملية انقلابية (رغم أنه كان خارج الخدمة العسكرية)، وفي البيان الانقلابي أعلن قيام مجلس لقيادة الثورة. ووفقاً للبيان أصبح بابكر النور رئيساً للمجلس والعطا نائباً له وفاروق حمد الله عضواً. لكن بابكر النور وحمد الله كانا خارج البلاد ـ في لندن تحديداً ـ عندما وقع الانقلاب. وخلال سفرهما للعودة إلى الخرطوم حدثت كارثة «قذافية».

كان رئيس مجلس قيادة الثورة الجديد وزميله عضو المجلس، يجلسان متجاورين داخل طائرة ركاب تابعة للخطوط الجوية البريطانية، متجهة إلى نيروبي بعد توقف في مطار الخرطوم. وأثناء عبور الطائرة الأجواء الليبية تصدت لها طائرتان مقاتلتان من سلاح الجو الليبي، بينما كان الكابتن البريطاني يتلقى رسالة من برج المراقبة الليبي في مطار بنغازي، مفادها أن طائرته ستضرب إذا لم تهبط فوراً.

وبعد أن هبطت الطائرة فعلاً، اقتحمتها قوة من جنود مسلحين أخذت الراكبين السودانيين. وكانت بقية الحدث أكثر درامية، فبناءً على تعليمات من القذافي شخصياً، نقلت طائرة عسكرية ليبية المقدم بابكر النور والرائد حمد الله إلى الخرطوم، حيث جرى إعدامهما رمياً بالرصاص وسريعاً، بل ويقال إن حمد الله أعدم دون محاكمة.

وبينما شملت الإعدامات الرائد هاشم العطا وضباطاً آخرين، عمد نميري بإلحاح من القذافي إلى إعدام ثلاثة من كبار قادة الحزب الشيوعي؛ الأمين العام للحزب عبدالخالق محجوب ومعه الشعيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق. هكذا تحقق للزعيم الليبي حلم القضاء على اليسار السوداني، أو بالأحرى التنظيم اليساري الأكبر. لكنه غيَّر موقفه تجاه اليمين، فقد تحالف لاحقاً مع الأحزاب التقليدية لإسقاط نظام رفيقه نميري نفسه!

 

 

Email