أميركا والخيار بين السيئ والأسوأ

ت + ت - الحجم الطبيعي

إننا نخوض الآن المعركة الكبرى حول ميزانية ‬2011. فمن سينتصر، هل هو الرئيس الأميركي باراك أوباما أم الجمهوريون في مجلس النواب؟ من المستحيل أن نجزم بالنتيجة، ولكنني أعرف من هو الطرف الخاسر في المعركة، إنه نحن الأميركيين. في الحقيقة، إننا خسرنا بالفعل. ويرجع السبب في ذلك، بشكل جزئي، إلى الحقيقة القائلة إن أميركا يبدو أنها لم تعد قادرة على تحمل أي شيء آخر سوى ما وصفه «توماس فريدمان» ذات مرة بالحلول «دون المثلى» لمشكلاتنا. فلتنظروا إلى ما يسمى بــ«النقاش» الذي يدور بيننا.

فالمشكلة المطروحة للنقاش بشكل ملموس هي العجز في الميزانية. ولكن من دون أي سياق، فإن الأرقام الأولية بشأن العجز لا جدوى منها. فلنقل مثلاً الديون المستحقة على أميركا هي ‬50 مليون دولار فإن ذلك لن يكون ديناً كبيراً. ولو أن الأميركي العادي وجد نفسه فجأة مديناً بـــ‬50 مليون دولار، سوف يشكل هذا مشكلة كبيرة. وذلك لأن الناتج المحلي الإجمالي في أميركا أكبر كثيرا من دخل الشخص العادي. لذلك فإن ما نتحدث عنه هو معدل الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي.

حتى الآن، يتركز النقاش بالكامل تقريبا على جانب الدين من المعادلة، وبالكاد سبل زيادة جانب الناتج المحلي الإجمالي. فكيف تقلص مضمار اللعب في هذه المناقشة لما هو مقبول بشكل كبير بحيث أن الاقتراحين الوحيدين المتنافسين اللذين يسمح لهما بالبقاء في المضمار هما التخفيضات التي أقرها الرئيس أوباما والتخفيضات الحادة التي اقترحها أعضاء مجلس النواب من الحزب الجمهوري؟

حسنا، لم يكن الأمر من قبيل الصدفة. وكما هو واضح، هناك مجال كامل من الدراسة على أساس الديناميكية التي يجري إعمالها، وهي الإنتاج المتعمد للجهل. فقد تمت صياغة هذا المصطلح على يد العالم الأميركي «روبرت بروكتر»، وهو مؤرخ العلوم في جامعة ستانفورد، ويعني دراسة الجهل الذي يتم تصنيعه بشكل متعمد أو المتولد سياسياً أو ثقافياً.

وقال «بروكتر»: «يفترض الناس دائما أنه إذا كان شخص ما لا يعرف شيئاً ما، فإن ذلك بسبب أنه لا يولي اهتماماً أو أنه لم يفسر هذا الشيء بعد». وأضاف: «لكن الجهل يأتي أيضاً من الناس الذين يقمعون الحقيقة، أو يخفونها، أو في محاولة لجعلها محيّرة بحيث يتوقف الناس عن الاهتمام بما هو صحيح وما هو غير صحيح». هل يبدو ذلك مألوفاً؟ إنها العملية الكامنة عملياً وراء كل أزمة حلّت بهذا البلد خلال العقد الماضي أو نحو ذلك.

لكنك لا تحتاج إلى أن تكون منتجاً محترفاً للجهل لكي ترى أن هذا النمط يعرض للخطر مستقبل البلاد. إننا هنا نخوض غمار «نقاش» آخر بشأن الميزانية، حيث تقتصر فيه الخيارات الوحيدة المطروحة على أي البرامج في الميزانية التقديرية غير العسكرية سوف يتم خفضها وبأي مقدار. وهذا يعني أن جميع التخفيضات محدودة تقريباً على جزء من الميزانية الذي يشكل ما يزيد قليلاً على ‬12٪ من الإنفاق لدينا.

والطريقة التي يتم بها سنّ هذه التخفيضات «اللازمة» هي على حد تعبير رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين «أوستان غولسبي»، ورئيس مكتب الإدارة والميزانية «ليو جاكوب»، والرئيس أوباما نفسه، بعمل «خيارات صعبة». إلا أن الأمر الذي تم إغفاله بشكل غريب من كل هذا الحديث الذي يتضمن تهنئة بالذات حول طرح «خيارات صعبة» هو عدم ذكر أن الرئيس منح ما يقرب من ‬120 مليار دولار عن طريق توسيع نطاق التخفيضات الضريبية من عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش للأغنياء.

في الواقع، إذا كانت الإدارة قد فعلت الشيء الصحيح في ديسمبر الماضي، فإنها كانت ستحظى بتأييد الجمهور في صفها. فهناك ‬26٪ فقط ممن كانوا يفضلون تمديد تخفيضات للجميع، منهم ‬53٪ كانوا يريدون أن يقتصر التمديد على من يصل قيمة دخلهم أقل من ‬250 ألف دولار. ولكن الجمهور لا يصيغ القواعد للمناقشة.

وتقتصر «خياراتنا القاسية» الآن على السيئ والأسوأ. السبب يسهل تفهمه، حسبما اختتم ستيف بينين في صحيفة «واشنطن منثلي»، حيث قال: «ربما يعتقد الأميركيون المنزعجين أن الوظائف والاقتصاد هما أكثر قضية قومية إلحاحا في أميركا، ولكن العالم السياسي لا يجد جدوى من مثل هذه المخاوف الضيقة. فقد تغير نشاط المؤسسة السياسية». لكن الحلول المطروحة من قبل المؤسسة ليست كافية لعلاج الأزمة فحسب، وإنما ستحدث ضرراً طويل الأمد للبلاد.

وكتب «بول كروغمان»، أخيراً، يقول: «إن خفض الإنفاق في الوقت الذي لا يزال الاقتصاد في حالة ركود عميق، يعتبر بمثابة وصفة لنمو اقتصادي أكثر بطئاً، وهو ما يعني فواتير ضرائب أقل». وبالطبع، فإن ذلك سوف يعني (كلية في الوقت الحالي) المزيد من «الخيارات الصعبة»! إنها حلقة جهنمية.

ولكنها ليست حتمية. الأمر يحدث لأن هذا هو الخيار، وهو ليس خياراً «صعباً»، الخاص بمن يسيطرون على مناقشتنا السياسية. إننا نعلم جميعاً بشكل أساسي كيف أن هذا «النقاش» سوف يؤول إلى النهاية، مع قدر كبير من المعاناة غير الضرورية. سواء كنا مضطرين إلى التعامل مع الخيارات السيئة أو أسوأ الخيارات لا يزال أمراً معلقاً لم يتم حسمه، ولكن دعونا على الأقل التوقف عن الادعاء بأنه نقاش حقيقي، وأنه ما من شئ آخر في حيز الإمكان.

Email