الفوران العربي بعيون أميركية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في أشد اللحظات حرجا، لا تكتفي واشنطن بالتنكر لحلفائها في جمهوريات الاستبداد العربية فحسب، بل تنصب نفسها واعظا في الأخلاقيات الديمقراطية. هذا هو أحدث درس في مجال العلاقات الأميركية مع العالم العربي.

ربما لا تكون الولايات المتحدة في كل الأحوال القوة الخارجية التي تبتدر إنشاء أنظمة استبدادية عربية، لكن من المؤكد أنها هي التي تقوم بتربية زعامات دكتاتورية وإمدادها بكل أسباب البقاء، لتكون مفروضة على شعوبها على مدى عقود زمنية متصلة. لكن مع ذلك فإنها سرعان ما تتبرأ بين يوم وليلة من زعامة دكتاتورية، عندما ينطلق تيار شعبي عارم يدفع بهذه الزعامة إلى حافة السقوط. في هذه الحالة تكون الزعامة الدكتاتورية قد احترقت كورقة نافعة من المنظور الأميركي.. وبالتالي آن الأوان لانتقاء وجه جديد، دون أن تتغير الطبيعة الجوهرية للنظام الاستبدادي كأداة لخدمة المصالح العليا الأميركية.

خلال الأسابيع الأخيرة، شهدنا فورة شعبية زلزالية في الشارع العربي، استهدفت أنظمة عربية في صميم بقائها. ومع اشتداد الفوران في الشارع وتصاعده يوما بعد يوم، أخذت تصدر بيانات وتصريحات عن كبار رموز الإدارة الأميركية بمن فيهم الرئيس، لا تعكس في إجمالها سوى أن الولايات المتحدة قررت النأي بنفسها عن زعامات تلك الأنظمة، في وقت أضحت تلك الزعامات أحوج ما تكون إلى المساندة. أكثر من ذلك، أخذ رجال الإدارة الأميركية يتبارون في حث الحكام المأزومين على انتهاج ديمقراطية الحوار مع المعارضة للتجاوب مع مطالبها.

بكلمات أخرى؛ تعطي الولايات المتحدة انطباعا بأنها لم تكن أبدا شريكا للأنظمة الحاكمة في سياسات الفساد، التي أدت إلى تفجر الغضب الشعبي. ورغم أن هذه الأنظمة ليست جديرة بأي عطف، إلا أن الموقف الأميركي تجاه محنتها، لا يمكن بحال من الأحوال أن يوصف بأنه أخلاقي.

الفوران الشعبي لم يأت من فراغ، ثم إنه ليس حدثا وقتيا عابرا. لقد تفجر هذا الفوران نتيجة لتراكمات متصاعدة، وحلقات متسلسلة من الآثام التي ارتكبتها السلطات الاستبدادية في كافة مناحي الحياة.. وكانت الولايات المتحدة شريكا أصيلا في هذه الآثام، مفضلة المصالح على المبادئ. في المجال الاقتصادي، كانت الولايات المتحدة هي القوة الخارجية الضاغطة لحمل الأنظمة على اتخاذ سياسات وتدابير، من شأنها تحميل الطبقات الفقيرة عبء «الاصلاح» الاقتصادي، مع إعفاء الشريحة الطبقية العليا لأصحاب الثراء الفاحش، من الضرائب مع تسخير التسهيلات المصرفية لهم دون ضمانات تذكر. وكانت الولايات المتحدة أيضا وراء فرض شروط صندوق النقد الدولي على حركة الاقتصاد الوطني. وفي مقدمة هذه الشروط، تقليص أو سحب الدعم السعري على سلع المعيشة الأساسية، وأبرزها الخبز وزيت الطعام والسكر والوقود. ومن بين شروط الصندوق أيضا، حمل جهاز الدولة على إلغاء أية قيود على تحويلات النقذ الأجنبي إلى الخارج، الأمر الذي نتج عنه انهيار قيمة العملة الوطنية، مما تسبب في الهبوط الحاد المتواتر في القوة الشرائية لذوي الدخل المحدود، وهم أغلبية الشعب. بكلمة واحدة؛ أدى مجمل تلك السياسات والإجراءات، إلى ازدياد الفقراء فقرا والأثرياء ثراء. ولكي تتوضح الصورة أكثر، علينا أن نعيد إلى الأذهان أن الولايات المتحدة هي صاحبة النصيب الأكبر في رأسمال صندوق النقد الدولي، ما ينفي عنه أية صفة دولية. فهو في حقيقة الأمر الذراع المالية العالمية لمؤسسة السلطة الأميركية.

الآن ومع تفجر الفوران الشعبي المتعاظم، تدعو إدارة أوباما الأنظمة الحاكمة إلى اعتناق فضائل النهج الديمقراطي، بما في ذلك ضمان حرية التعبير والتجمع والامتناع عن القمع التعسفي لفئات الشعب.. «إن لم تستح فاصنع ما شئت». كأن الولايات المتحدة لم تلتزم السكوت وهي ترى السلطات الحاكمة تمارس الاعتقالات السياسية الظالمة، وعمليات التعذيب داخل المعتقلات، وتعطيل العدالة عن طريق القضاء المدني المستقل، لصالح المحاكم الاستثنائية التي تعمل وفقا لقوانين طوارئ على مدى عشرات السنين. لكن اللعبة الأميركية أصبحت مكشوفة. فالهدف المبدئي من التضحية برمز استبدادي على مستوى القمة، هو اكتساب ثقة الشارع الفائر. ومن هنا تستغل واشنطن هذه الثقة، للسيطرة على تطورات الوضع بما يمكنها من انتقاء شخصية جديدة موالية لها، تكون مقبولة لدى المعارضة دون أن تبدو عليها شبهة الولاء.

ويبقى السؤال الأكبر: هل ينخدع الشارع الثائر فتنطلي عليه هذه الحيلة؟

هذا هو التساؤل الذي ينبغي أن يكون هاجسنا الأعظم، ونحن نتابع أحداث الأيام المقبلة.

Email