أحكام العصر وتداعيات المستقبل...

ت + ت - الحجم الطبيعي

بين أزمة النظام وأزمة دولة، تتعرض المنطقة العربية إلى رياح عاصفة تحمل في طياتها، وفي دوافعها واستهدافاتها، سمات عصر العولمة وثورة تكنولوجيا الاتصالات. قوة هذه الرياح العاصفة، تتناسب طردياً مع درجات الثبات النسبي الطويل لبعض أنظمة الحكم التي تميزت بالاعتماد على أجهزة قمعية تفوق في أعداد المنتسبين لها، أعداد الجيوش الرسمية.

بعض النظم تجاهلت حقوق الملايين المطالبين بلقمة العيش والشباب الباحثين عن العمل والكرامة وتعميق روح الانتماء والمواطنة. قبل اندلاع شرارة الانتفاضة الشعبية في تونس، كانت مؤشرات الأزمة، مع ملاحظة التفاوت، ظاهرة للعيان في أكثر من بلد عربي، يعاني بعضها من أزمات متفاقمة تطال وجود الدولة ككينونة جيو سياسية واجتماعية تاريخية مثلما هو حال العراق، والسودان والصومال وإلى حد ما اليمن، وهي دول تعاني من مخاطر التفكك انطلاقاً من عوامل داخلية تتصل بتراكيبها الاجتماعية وبعوامل خارجية دافعة ومشجعة.

يمكن للبعض أن يحيل ذلك إلى ما يمكن اعتباره مؤامرة الشرق الأوسط الجديد، الذي تبنته هدفاً، الإدارة الأميركية السابقة، التي تحدثت وزيرة خارجيتها آنذاك كوندوليزا رايس عن الفوضى الخلاقة، بين الفوضى الخلاقة، التي تعتمد استثارة عوامل وصراعات داخلية، تستهدف إصلاح أنظمة الحكم، نحو مزيد من الديمقراطية والليبرالية، واقتصاد السوق، والمشاركة السياسية، وبين الفوضى المدمرة التي تستهدف تفكيك الدولة القطرية، وإعادة رسم خارطة المنطقة، على أساس تقسيم الممكن من المقسم، تتبدى الأهداف والاستراتيجيات الأميركية والإسرائيلية إزاء المنطقة، وهي واضحة كل الوضوح.

هكذا ينبغي أن نمعن النظر في أقوال وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون التي تحدثت مؤخراً عن العاصفة التي تهب على المنطقة، وهكذا أيضاً ينبغي النظر إلى ما تحدثت عنه بعض الأوساط الغربية، بشأن أحداث كبرى ستقع في المنطقة العربية بعد منتصف هذا الشهر، فبراير الجاري.

ما يجري في مصر منذ ثلاثة أسابيع، لم يعد ولا يمكن النظر إليه على أنه حدث مصري، فمصر هي الدولة العربية الأكبر، والأكثر عراقة، والأكثر تأثيراً على المحيط. إن مصر هي مركز وقلب الوطن العربي، وهي دينامو نهوض المشروع القومي العربي، كما أنها يمكن أن تكون مقبرة هذا المشروع، ولذلك من المنطقي جداً أن تصل تداعيات الزلزال الذي تتعرض له، إلى دائرة تتجاوز حدود المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بأكملها.

يحق للمواطن العربي، وليس المصري فقط أن يتابع باهتمام ولحظة بلحظة مجريات الحدث في مصر، فهو بوعيه الفطري يدرك تماماً أن ما يجري هناك يمس حاضره ومستقبله أياً كان مكان وجوده، والجنسية العربية التي ينتمي إليها. مجريات الأحداث في مصر تدق بقوة أجراس الإنذار لدى العديد من دول المنطقة التي تتماثل الأوضاع فيها مع الوضع في مصر عشية ثورة الغضب في الخامس والعشرين من يناير الماضي، لكن بعض الأنظمة العربية المعنية التي ينتابها قلق عميق، لم تدرك مدى التغير المطلوب القادم.

جديد الثورة الشعبية في مصر يكمن في اعتمادها على الشباب الذي يتمتع بالحيوية والوعي والراديكالية، وليس على الأحزاب السياسية التقليدية التي أكل عليها الدهر وشرب. في مصر يبدي الشباب صبراً وإصراراً على المواصلة لتحقيق الأهداف الجذرية التي خرجوا من أجل تحقيقها، ويبدي هؤلاء إصراراً يفوق إصرار الأحزاب السياسية بكل تلاوينها وانتماءاتها.

الأحزاب السياسية في مصر استجابت كلها تقريباً وتباعاً، لدعوات الحوار التي أطلقها أركان الحكم في مصر، وارتضت بحلول توافقية تضمن تغييراً جزئياً ولكنه تغيير مهم، غير أنها لم تنجح في أن تفرض استجابتها وقبولها على النواة الصلبة من الشباب الذين أطلقوا الحالة الشعبية، وما زالوا يتمسكون بشعاراتهم الأولى التي لا تقبل بديلاً عن تغيير النظام.

الدرس هنا، وفي تونس قبل ذلك يشير إلى حقيقة عصرية، وهي أن اندلاع الثورة والخروج للتغيير، ليس مرهوناً بوجود حزب منظم مهما طال تاريخه وتصلبت صفوفه التنظيمية والإيديولوجية، فالمبادرون الذين التحقت الأحزاب بهم لم يكونوا حزباً وإنما نظمتهم الدافعية للتغيير، عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تتيحها أدوات العصر.

وكلما استمر الحدث، ومن الواضح أنه يتواصل لفترة مقبلة، كلما وفر ذلك فرصة للشباب لتنظيم صفوفهم وتنظيم حركتهم، وكلما وفر ذلك أيضاً فرصة أكبر لتوسيع دائرة التأثير والتداعيات على مساحة أكبر خارج مصر.

لقد أربكت مجريات الحدث في مصر الآخرين وأصابتهم بالفزع، ما أدى ببعض الأنظمة للتطوع ببعض الإصلاحات أو الإجراءات لاسترضاء شعوبها واحتواء غضبها.

ليس هذا وحسب، فعلى الرغم من أن لا الشباب المبادرون، ولا الأحزاب السياسية في مصر وقبلها في تونس، رفعوا شعارات سياسية ذات طبيعة قومية أو تحررية، بما يتصل بكامب ديفيد والصراع العربي ــ الإسرائيلي والعلاقات مع الولايات المتحدة، ودول الغرب الرأسمالي، نقول رغم غياب هذا البعد الاستراتيجي، إلا أن هذه الدوائر كلها تتحسب لما سيأتي في لاحق الأيام ارتباطاً بالمحطة التي سترسو عليها وعندها عملية التغيير التي لم تعد قابلة للانكفاء.

إن ما يقوم به شباب مصر وعمالها وفلاحيها وفقراؤها من شأنه أن يغير وجه المنطقة، وأن يعصف بالكثير من الاستراتيجيات والمصالح والخيارات.

لعل من المنطقي أن نلاحظ القلق الشديد الذي ينتاب المسئولين والساسة الإسرائيليين الذين خيم الحدث المصري وتداعياته على مناقشاتهم السنوية في مؤتمر هرتسيليا الذي يشكل أهم المحطات الدراسية التي تقرر استراتيجيات دولة إسرائيل. إسرائيل التي تعبر عن ارتياحها للأوضاع في مصر والمنطقة العربية قبل الخامس والعشرين من يناير، أظهرت عدم رضا عن المواقف الأميركية التي كانت تطالب بالانتقال الفوري للسلطة في مصر، وكانت ترغب في قمع المفاوضات، فالهم الأول لها والأخير هو حماية كامب ديفيد، واحتفاظ مصر بدورها العربي والإقليمي.

Email