رأس المال الهارب ومدى وطنيته

ت + ت - الحجم الطبيعي

سؤال طالما تردد كثيرا ومازال، هل رأس المال الخاص وطني أم أنه بلا وطن؟

النظرية الماركسية اللينينية لا تؤمن بأي رأسمال خاص وطني، بينما بعض المذاهب الاشتراكية في القرن الماضي أمنت بوطنية بعض أشكال هذا الرأسمال الخاص ومنحته وصف «الرأسمالية الوطنية»، والواقع على الساحة العالمية يقول أن أي رأسمال خاص يصعب وصفه بالوطني إلا إذا دخل في اختبار مباشر يحسم الإجابة على هذا السؤال، وهذا الاختبار يتجلى في المقام الأول في مدى ارتباط هذا الرأسمال بأرض الوطن في وقت الأزمات الحادة وعدم لجوء أصحابه للهروب به من الوطن في حالة الخطر، ولقد شهدت روسيا اختبارا مشابها لأول مرة في مطلع هذا القرن عندما أراد النظام الحاكم الخروج بالبلاد من أزماته الحادة التي تراكمت طيلة سنوات التسعينات من القرن الماضي، هذه السنوات التي شهدت تشكل طبقة من الأغنياء لم يكن لهم وجود في الاتحاد السوفييتي السابق، وهذه الطبقة أطلق عليها البعض وصف رجال الأعمال الروس الجدد، وقيل أنهم يمثلون الرأسمالية الوطنية، ولكن أفراد هذه الطبقة لم يكونوا يملكون أي شيء قبل قليل، وفجأة بعد أقل من خمسة سنوات أصبحوا رجال أعمال يملكون المليارات ويضعون أيديهم على كافة موارد الاقتصاد الروسي، هذا في الوقت الذي كان يعاني فيه الشعب الروسي من أزمات حادة وفقر لم يراه حتى في سنوات الحرب العظمى، إذا كيف يمكن أن نسمي هذا الرأسمال وطنيا؟

نفوذ رجال الأعمال الروس اتسع بشكل كبير في عهد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين حيث سيطروا علي ما يقرب من ‬80٪ من قطاع الطاقة من النفط والغاز وقطاع الصناعات الثقيلة والمعادن والمال والبنوك وأيضا قطاع الإعلام، وجاء ذلك كله نتيجة برامج الخصخصة التي بدأت في عام ‬1993، والتي بيعت فيها ممتلكات الدولة السوفيتية العظمي برخص التراب كما يقولون، وقدر البنك الدولي في عام ‬1999 خسائر روسيا من برامج الخصخصة هذه بنحو ثلاثة تريليونات من الدولارات، أي ما يعادل ضعف الميزانية العامة للولايات المتحدة الأميركية، وكان لرجال الأعمال الروس النصيب الأكبر، وتحول نفوذهم في روسيا من السيطرة علي الاقتصاد إلى نفوذ سياسي قوي أصبح يعوق بشكل واضح سياسات وطموحات الرئيس الجديد فلاديمير بوتين الذي تولي الحكم في يناير عام ‬2000، وبدأ بوتين يخطط لاسترداد ثروات روسيا من يد هؤلاء اللذين استولوا عليها بطرق غير شرعية.

كانت البداية مع رجل الأعمال الروسي بوريس بيرزوفسكي الذي وصفته مجلة فوربس الأميركية في عهد يلتسين بـ «الأب الروحي للكريملين» نظرا لنفوذه القوي علي الرئيس يلتسين وعائلته، ووصل بيرزوفسكي إلى أعلي المناصب في الدولة لدرجة أن المعارضة الروسية كانت تقول أنه هو الذي يدير شؤون الحكم في الكريملين، ولما استشعر بيرزوفسكي الخطر من جهة الرئيس الجديد بوتين فر هاربا إلى بريطانيا التي منحته اللجوء السياسي، وتبعه بعض رجال الأعمال أمثال ألكسندر سمولينسكي صاحب أكبر مجموعة من المال والبنوك والذي يقال أنه يعمل في مؤسساته نحو مليون مواطن روسي، كما لحق بهما في لندن إمبراطور الإعلام الروسي فلاديمير جوسينسكي، كل هؤلاء المليارديرات كانوا حتى عام ‬1989 مواطنين سوفييت عاديين لا يزيد راتب أي منهم من الروبلات الروسية عن ما يعادل مائة دولار أميركي شهريا.

هؤلاء وأمثالهم في روسيا أطلق البعض عليهم وصف الرأسمالية الوطنية، بينما هم كانوا يكدسون الأموال التي نهبوها من روسيا في العديد من بنوك الدول الأخرى، ويضاربون بها في أسواق المال لتدر لهم عائدات خيالية لا يصل للشعب الروسي منها شيء، وقد انكشف هذا بوضوح في الأزمة المالية العالمية الحالية، حيث شاهدنا ثلاثة مليارديرات فقط من الروس يخسرون وحدهم في العام الأول من الأزمة أكثر من ستين مليار دولار، يعني ضعف ما خسرته دولة أوروبية انهارت بسبب الأزمة مثل أيسلندا أو اليونان، والغريب أن هذه الخسائر لم تؤثر فيهم بشيء، فقد جمعوا هذه المليارات بسرعة البرق بطرق غير شرعية، ولهذا لا يشعرون بحسرة كبيرة لخسارتها، وعندما طالبتهم الحكومة الروسية، ليس برد الأموال، بل فقط بسداد مستحقات الدولة من الضرائب رفضوا وتهربوا، وذلك أمثال خودركوفسكي صاحب شركة «يوكوس» النفطية المتهرب من سداد ضرائب بأكثر من عشرين مليار دولار، والقابع الآن في السجن في روسيا ويدافع عنه الغرب وواشنطن بشراسة بالغة باعتباره نموذج للرأسمالية الوطنية الروسية الجديدة.

الآن نسمع عن الأحداث التي تقع في بعض الدول العربية، ومظاهرات الاحتجاج العارمة التي تطالب بتغيير أنظمة الحكم، وأول ما يلفت نظرنا بمجرد تصاعد هذه الأحداث هو هروب البعض ممن يسمونهم برجال الأعمال من أصحاب رأس المال الوطني، والحقيقة أن هؤلاء لو كانت رؤوس أموالهم بالفعل وطنية ومرتبطة بالوطن ومصالحه ومصيره لما فكروا في الهروب بعائلاتهم، ولكن على ما يبدو أن أموالهم التي جمعوها من داخل الوطن تقبع في الخارج في بنوك آمنة ولا يوجد منها داخل الوطن شيء سوى مكاتب شركاتهم بموظفيها المساكين التي لا يعرف أحد مصيرهم بعد هروب أربابهم.

Email