حتى لا تُغتصب أحلام «البوعزيزي»

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مقال سابق، تساءلنا عن تحقيق أحلام التونسيين بعد فرار الرئيس السابق، حيث أكدنا أن خروجه من سدة الحكم لا يعني بالضرورة زوال النظام، ولا يعني كذلك إقرار الديمقراطية وممارستها، ولا التداول السلمي على السلطة ومشاركة الشعب في صناعة القرار. هذه الأمور كلها تتطلب إجراءات وأعمالاً أكثر بكثير من هروب الرئيس.

صحيح أن الثورة الشعبية حركت الضمائر وجمعت الصفوف وكشفت المستور، لكن الشعب التونسي بحاجة إلى أكثر من التظاهرات والمسيرات الشعبية والاحتجاجات، لإقرار الديمقراطية والحكم الرشيد، وإرساء الهياكل والآليات الضرورية للمشاركة السياسية المسؤولة والملتزمة، ووضع الآليات الضرورية واللازمة للقضاء على الفساد.

تحرك الشارع التونسي زحزح الطاغية وأجبره على الفرار، لكن بقي النظام. الشارع التونسي فاز بشوط، وما زال الشوط الأهم في انتظاره. والتحدي الكبير الذي ينتظر الشارع التونسي، هو مواجهة الانتهازيين وبقايا الحكم السابق، الذين يريدون ركوب الموجة واستغلال الظروف للعودة إلى مقاليد الحكم ومؤسسات الدولة. تونس على موعد مع مرحلة انتقالية مصيرية ومحورية في تاريخها المعاصر، فالأمر يتعلق بالانتقال إلى مرحلة جديدة تختلف تماماً عن المرحلة السابقة، من حيث التشريع والتنظيم والإدارة والتسيير والتشريع القانوني والدستوري، والعلاقة بين الرئيس والمرؤوس والحاكم والمحكوم. فالكلام عن مرحلة جديدة يتطلب القطيعة مع المرحلة السابقة وترسباتها وكل ما له علاقة بها.

ما نلاحظه مع الأسف الشديد، هو بقاء بعض من رموز الحكم السابق في مواقع عليا، وتباطؤ في العمل على تعديل الدستور السابق إلى حد الساعة، وهذه الأمور بطبيعة الحال تعكر صفو مرحلة جديدة تؤمن بأحلام «البوعزيزي» والثورة الشعبية التي أطاحت بالنظام. فتونس اليوم بحاجة إلى دستور جديد وانتخابات برلمانية مسبقة، وإلى هياكل إدارية وسياسية جديدة، حتى تبدأ مرحلة جديدة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التونسية.

ما هي القوى السياسية التي ستحكم تونس؟ وكيف ستكون الخريطة السياسية بعد الحقبة الماضية؟ ما هو دور المجتمع المدني في المرحلة الجديدة؟ وكيف ستكون المرحلة الانتقالية بعد حكم استبدادي تسلطي؟ صحيح أن ما حققته الثورة الشعبية كان أكثر من رائع، وكانت نتائجه تاريخية؛ لكن ما ينتظر التونسيين الآن هو العمل على إرساء هياكل الديمقراطية وروحها، والسلوك الديمقراطي في الشارع التونسي. الثورة الشعبية كانت عفوية وبريئة، ولم تنبع من أي تنظيم نقابي أو حزبي أو من أي جهة في المجتمع المدني.

تونس الآن تحتاج حكومة إنقاذ وطني ووحدة وطنية، تكون خالية من رواسب ورموز المرحلة السابقة، لتضع دستوراً جديداً وتحّضر لانتخابات برلمانية جديدة، تفتح المجال لكل الأطياف والفعاليات السياسية المختلفة، لانتخاب برلمان تعددي وديمقراطي، والتحضير للاستحقاقات الرئاسية بدستور جديد وبرلمان جديد أيضاً. خطأ كبير أن يتم الشروع في انتخابات رئاسية، في ظل الدستور القديم والبرلمان السابق، ووجود كثير من مخلفات ورواسب نظام الحكم السابق. فلا تزال هناك خشية من سرقة الثورة وأحلام «البوعزيزي» وغيره من الشباب التونسي، الذي يريد نظاماً جديداً مبنياً على العدالة الاجتماعية والفصل بين السلطات والحق في حرية التعبير وحرية الصحافة.

أين المجتمع المدني لحماية الثورة الشعبية من السرقة والاغتصاب والاستغلال؟ ما هو دور الجيش في كل هذا؟ ماذا عن الحركات الإسلامية؟ ماذا عن الحركات اليسارية؟ ماذا عن القوى الخارجية ودورها في تشكيل الخريطة السياسية الجديدة لتونس؟

فالتغيير الذي تحتاجه تونس لا يقتصر على التخلص من ابن علي، وإنما التخلص من نظام تغلغل في أعماق المجتمع التونسي منذ الاستقلال، أي خلال حقبة الحبيب بورقيبة ثم من بعده زين العابدين بن علي، أي لفترة امتدت ‬44 سنة. فتونس بحاجة إلى عملية تغيير جذرية، وليس عملية تجميل. والمتتبع للأحداث السريعة التي شهدتها تونس مؤخرا، يلاحظ أن الجيش هو الذي أرغم ابن علي على الهروب بجلده تحت ضغط الشارع، والجيش بطبيعته لن يقف مكتوف الأيدي في الأيام والشهور القادمة يتفرج على الأحداث من بعيد. فهل يريد الجيش تحويل ولاء الرموز السابقين لابن علي إلى ولاء للجيش؟ هل الجيش يريد التغيير الجذري وتغيير النظام؟ أم أنه يريد عملية تجميلية تتمثل في التخلص من ابن علي وعائلته وحاشيته، والسطو على السلطة؟ لقد حدث هذا في العديد من الدول!

غموض كبير وأسئلة أكبر، والأهم بالنسبة للشارع التونسي، هو أنه يجب أن يصمد ويصر على التغيير الجذري، وأن ينظم نفسه في مجتمع مدني قوي وفعال، يؤهله للحفاظ على مكاسب ثورة ‬17 ديسمبر. الرهانات كبيرة والتحديات جمة، ومصير تونس غير واضح إلى حد الآن، ومن الصعب قراءته قراءة جيدة ودقيقة في ظل غياب الكثير من المعطيات.

الخوف على الثورة الشعبية التونسية المباركة، هو أن تُستغل من قبل مخلفات وبقايا النظام لتُسكت الشارع وتقوم ببعض العمليات التجميلية الظرفية، ثم بعد ذلك تعود الأمور إلى سابق عهدها، وهذا ما يخشاه الشارع التونسي الذي يبحث عن قطيعة جذرية مع النظام السابق. الثورة الشعبية بحاجة إلى الشوط الثاني وإلى المرحلة الثانية الأهم والأخطر، حيث أن الأمر يتعلق بوضع الأسس الحقيقية لمرحلة جديدة، تقوم على إشراك المجتمع المدني في الفضاء السياسي التونسي وصناعة القرار. التحديات التي تواجه المرحلة الثانية من الثورة الشعبية عديدة ومعقدة، وتتطلب وجود مجتمع مدني قوي وفعال، وأحزاب سياسية تستطيع إنجاز القطيعة مع الماضي، وبناء مجتمع تونسي ديمقراطي يؤمن بالتناوب على السلطة.

بالنسبة للمؤسسة العسكرية، يجب أن تقتنع بأن دور الجيش يجب أن لا يتخطى عتبة المسؤوليات والمهام الموكلة إليه من قبل قوانين ودستور الدولة، وأن يترك السياسة للسياسيين. كما تجب المحافظة على النظام العام، وعلى مصداقية وثقة المستثمرين الأجانب في البلد، خاصة وأن اقتصاد تونس يقوم على التصدير والسياحة. من جهة أخرى، يجب التعامل برزانة وبثقة وبصرامة مع القوى الخارجية، سواء المجاورة منها أو الأوروبية والأمريكية، بتأكيد عدم التدخل في الشأن الداخلي التونسي، واحترام إرادة الشعب.

لقد حققت الثورة الشعبية إنجازات مهمة، لكن الأهم ما زال ينتظر المخلصين والطيبين والمحرومين من الشعب التونسي، من أجل تحقيق المصلحة العامة وأحلام «البوعزيزي».

Email