هل هبت رياح التغيير؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

الهجرة أو الانتحار أو الموت البطيء؛ ثلاثة خيارات لا رابع لها أمام أجيال الشباب في أنحاء العالم العربي، ممن تدفع بهم الجامعات والمعاهد كل عام إلى سوق عمل محلية لا وجود لها. وحتى خيار الهجرة الذي يبدو للبعض إيجابيا ومبشرا، فإنه في حقيقة الأمر ليس متاحا إلا لأولئك القلة الضئيلة النادرة من أبناء الأسر الثرية، الذين تلقوا تعليما نوعيا في مدارس وجامعات خاصة تبيع العِلم بأسعار باهظة.

هكذا تتنامى بمعدلات متسارعة ومتضخمة، ظاهرة البطالة المتفشية بين الشباب العربي على مدى عقود زمنية متصلة، مما يدعو إلى التوقف لنتساءل: لماذا؟ إنه التساؤل الكبير الذي يبرز على سطح الأحداث، من خلال التطورات الدرامية الزلزالية التي أفرزها ما جرى في تونس من تفجر مشاعر شعبية عارمة، أصابت العالم العربي من أدناه إلى أقصاه ـ أنظمة وشعوبا ـ بحالة من الذهول الفجائي. ولذا فإنه تساؤل لا يقتصر على الزلزال السياسي التونسي، فهو يمتد ليشمل العالم العربي بأسره.

عناصر المشهد العربي العام مشتركة ومتطابقة: شريحة طبقية صغيرة تحتكر موارد الثروة الوطنية.. وسلطة حاكمة أوجدت لرعاية مصالح هذه الفئة الضئيلة المتميزة.. ومجموعة قوى غربية تسهر على حماية ورعاية السلطة الحاكمة. وهكذا تبقى الأغلبية العظمى في المجتمع العربي، في حالة بؤس معيشي مقيم ضحية لهذا التحالف الثلاثي.

في معظم البنيات الاقتصادية والمالية في العالم العربي، عجز مزمن ومستديم في ميزانية النقد الأجنبي، لأن الحصيلة السنوية لموارد النقد الأجنبي لا تغذي حسابات الدولة الخارجية.. فهي تذهب من ناحية إلى حسابات شركات أجنبية سمح لها بدخول السوق المحلية على أساس نظام «تشجيع الاستثمار الأجنبي».. ومن ناحية أخرى، إلى حسابات وكلاء هذه الشركات الذين تتكون منهم الشريحة الطبقية الصغيرة بالغة الثراء. ومهمة رجال مؤسسة السلطة العليا في هذه الحالة، تتمثل في تسهيل جريان هذه العملية من طريقين: أولا إصدار التشريعات وعمل الترتيبات اللازمة..

 وثانيا إسكات أصوات المعارضة وقمعها بشتى الوسائل السلطوية والأمنية. وهكذا يتفاقم التدهور في أداء الاقتصاد الوطني، لنضع تبعات هذا التدهور على كاهل الفئات محدودة الدخل، التي تشكل الغالبية العظمى في المجتمع. تتناقص قيمة العملة الوطنية بإيقاع متسارع، وبالتالي تتدهور القوة الشرائية للرواتب والأجور. ولأن الحكومة تضطر إلى طبع المزيد تلو المزيد من أوراق العملة، مع عدم وجود غطاء كافٍ من أرصدة النقد الأجنبي، فإن ارتفاع الأسعار في السوق الاستهلاكية يتصاعد.

ويواصل التصاعد على نحو جنوني. من هنا ندرك تشابه العناصر الرئيسية في المشهد العربي العام؛ موجة تلو موجة من الغلاء المستعر في أسعار السلع الضرورية، وفي مقدمتها الخبز والحليب والبنزين، مع تدهور القوة الشرائية لدخول الأفراد والأسر يوما بعد يوم. ويتواكب مع ذلك زوال دور الدولة في توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية؛ الرعاية الطبية، والتعليم، والإمداد الكهربائي، مما يضطر فئات الدخل المحدود للجوء إلى مؤسسات القطاع الخاص في هذه المجالات التي تعصر الناس عصرا.

ولا تتوقف المأساة عند هذا الحد، فالبؤس المعيشي لدى الأسر، يتضاعف مع انتشار ظاهرة البطالة بين الشباب، واتساع نطاقها عاما بعد عام.

هذه الظاهرة لا تنطلق من فراغ.. فهي موصولة بالمسار التدهوري العام لحركة الاقتصاد الوطني، ذلك أن المزيد تلو المزيد من الشباب ينضمون إلى صفوف البطالة، لأنه ببساطة لا توجد وظائف. وعدم وجود وظائف يعني أنه لا توجد مشروعات تنموية جديدة، تفرز فرص عمل جديدة. وعدم وجود مشروعات متجددة، يعني بدوره غياب الدولة عن حركة اقتصاد وطني بات على حافة الإفلاس.

وبعد.. ماذا عن المستقبل؟

لقد أعطى الشعب التونسي إجابة عملية عن السؤال. لكنها إجابة مبدئية لا تزال تتفاعل، إذ إن من المبكر أن نعرف في أي اتجاه تسير الأمور. لكن يبقى من المؤكد أنه لن يحدث تغيير جذري في تونس أو غيرها من بلدان العالم العربي، ما لم يتغير أو يتفكك التحالف الثلاثي القائم بين الشريحة الطبقية الاستغلالية بالغة الثراء، وجهاز السلطة السياسية الحاكمة والقوى الغربية.

الشريحة الاستغلالية لن تسمح بأي تغيير من شأنه المساس بمكتسباتها وطمعها في المزيد، بحيث يزداد الأثرياء ثراء والفقراء فقرا، والسلطة الحاكمة هي شريك هذه الشريحة.

أما القوى الغربية فإن لها صنفين من الأجندة: أولا حماية عمليات نهب الثروات التي تمارسها الشركات الغربية.. وثانيا ضمان ألا تتبنى دول العالم العربي سياسة ناشطة العداء ضد إسرائيل. وفي كلتا الحالتين فإن الأمر يتطلب أن تكون الأنظمة الحاكمة العربية، بالضرورة الحتمية، أنظمة دكتاتورية، مع تحبيذ أن يكون للأنظمة ديكور «ديمقراطي» خارجي.

من هذا المنظور، علينا أن نتابع ما يجري وسيجري في تونس، لنعرف أين تتجه رياح التغيير.

 

 

Email