حين تدور الدوائر

ت + ت - الحجم الطبيعي

كلنا تابعنا، وما زلنا، الأحداث الأخيرة في تونس، وعلى الرغم من اختلاف ردود أفعال الناس على ما حدث هناك، إلا أنّ أحدا لا يستطيع أن ينكر ما الذي يمكن أن تفعله إرادة الشعب في لحظات الغضب العارمة. لقد كانت أبيات الشابي التي حفظناها حين كنا صغارا، والتي سمعناها يتردد صداها في فضاء تونس الخضراء، في حراك عارم نحو إنهاء سنوات طويلة من الظلم والقهر والاستبداد والفساد، كانت هذه الأبيات تحيي في النفوس أفكارا ظنناها يوما أوهاما لشدة ما رأينا من سطوة المستبدين وتعنتهم، ولكثرة ما قرأنا وسمعنا عن الأساليب الظالمة في تكميم الأفواه، وخنق الحريات، واستغلال السلطة لتحقيق المصالح الشخصية، في حين يجأر الناس تحت وطأة الفقر والجوع والبطالة، ومصادرة الحقوق والحريات. فإذا كان ثمة درس مستفاد من هذه الثورة، على كثرة الدروس، فإنني أراه متمثلا في قول الشاعر العربي: البغي يصرع أهله * والظلم مرتعه وخيم.

وإن المرء ليتساءل، وهو بين ذهول وألم، إلى أي حدًّ يمكن أن يصل ظلم الإنسان لأخيه الإنسان؟ وإلى أي مدى يمكن أن يتجبر الظالمون؟ وإلى أي مدى يمكن أن ينقلب الظلم جبنا صريحا خالصا مصفى؟ إلى الحد الذي يدفع المرء إلى إنهاء حياته حرقا؟ إلى المدى الذي تداس فيه كرامة الناس وحقوقهم بنعال من نصّبوا أنفسهم أسيادا، ثم إلى المدى الذي تخنق فيه أنفاسهم إذا فكروا يوما أن يصرخوا بالآه؟ إلى المدى الذي يطير فيه الظلم عاريا مخذولا في الفضاء أمام عين الشمس؟

لقد غسلت «ثورة الياسمين» التونسية مرآتنا التي علاها الصدأ وغطاها الغبار، فكشفت أكثر ما كشفت عن سوءات بعض الأنظمة العربية القمعية، التي تتسيد بأنظمة التجبر والتخويف والتهديد الذي يصل أحيانا إلى درجة إراقة الدماء، إن فكّر الناس يوما أن يقفوا ويقولوا «لا» لنظام يمتص عافيتهم، وينتهك حقوقهم، ويتغافل عن حاجاتهم الأساسية الدنيا، منشغلا بتسمين نفسه، وتغذية أرصدته، وتربية مؤيديه من المستعبدين على الجهل والتسليم والتعظيم، وعلى حفظ شعارات الكذب والتسلط، وترديدها في المحافل المحلية والدولية. ولا يدري المرء أيضحك أم يبكي وهو يرى ردود أفعال بعض الحكومات العربية، وهي تهرع، خائفة أو مستبقة الأحداث، إلى تخفيض أسعار الغذاء أو إلغاء الضرائب الجمركية عليها، أو تقديم مساعدات مادية للناس في ردّ فعل أكثر بلاغة من أي كلام يصف مدى تشبثهم بالسلطة، وهلعهم أن يصيبهم بعض ما أصاب غيرهم، فيبيتوا في الفضاء محلقين على أجنحة الذل والخوف والهوان.

لقد صار حالنا موقوفا دوما على سياسة «رد الفعل» التي يغذيها الخوف أو التجبر والطغيان؛ أفلم يكن جديرا بهذه الحكومات أن تبادر إلى مراعاة حال شعوبها، وتقديم ما يمكن لها أن تقدمه لمساعدتهم على تجاوز أزمة الغلاء، ومشكلات البطالة؟ ما الذي جعلها اليوم قادرة على فعل ذلك في سرعة تقارب سرعة الضوء؟ وما الذي كان يمنعها بالأمس ويشل حركتها، ويقيد إرادتها؟ لن نخدع أنفسنا ونقول إنها باتت، فجأة، حريصة على تحقيق مطالب شعوبها المغلوبة على أمرها. إنها كانت وما زالت حريصة على شيء واحد؛ على أن تبقى ملتصقة بالكرسي ما أمكنها ذلك. ولا شك أن الاستبداد لا يقتات إلا على تجاوز الحدود ما لم ير حاجزا من حديد، ولقد كان الحاجز التونسي أقوى من الحديد وأمضى.

ويبدو أن تلك الأنظمة ليست قادرة على أن تستوعب التطورات الكبيرة التي يعيشها العالم اليوم في مجال تكنولوجيا الاتصال؛ فهي لا تزال تتوسد جهلها، وتركن إلى تاريخها القديم في تطبيق أنظمة التستر، والخداع، والتعمية الإعلامية الداخلية والخارجية، وتظن أنها بفعلها هذا تضمن لنفسها عمرا جديدا مديدا، تسترخي فيه على كرسيها الأثير. ولا أدري متى سيفهم بعض المسيطرين على الأجهزة الإعلامية في عالمنا العربي، أن الأمر أصبح أكبر منهم، وأذكى من أساليبهم التي تجاوزها الزمان، فقد خرج الأمر عن سيطرتهم بما يلتف حولنا من وسائل اتصال تتجاوز كل القيود في ثوان معدودة. فما الذي فعلته السلطات التونسية وهي تتستر على حادثة البوعزيزي وما تبعها من أحداث، إلا أن تعلن للعالم كله عن حقيقتها وتؤكد جهلها، وتمضي بنفسها نحو حتفها؟ لقد انتشرت أخبار هذه الحادثة بين الناس كما تنتشر النار في الهشيم، ولم ينفع السلطات كل ما بذلته لتقتل الحادثة، وتنجو من الغضب العارم الذي تلاها. وكم قد ينفع تلك الأنظمة في هذه الأيام، أن تستمع إلى ما قاله يوما علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وأن تعتبر به «استدل على ما لم يكن بما قد كان، فإن الأمور أشباه».

ولكن أشد ما يؤلم، وأكثر ما يدمي الفؤاد، وسط فرح الناس بثورة الشعب الحرة، أن الأمور وصلت في هذا الجزء من العالم إلى الحد الذي يفقد الشباب فيه أملهم، ويتخلون عن أغلى ما عندهم، وهم يرون أحلامهم وكرامتهم تراق على أرصفة الشوارع، فلا يجدون وسيلة لإيصال صوتهم وإطلاق مكنونات قلوبهم، إلا بالحرق الذي يسلبهم حياتهم، فماذا بعد أن يسلَب المرء أحلامه، وكرامته، وأبسط حقوقه في العيش الحر الكريم؟

إننا نقرأ كل يوم عن مشكلة البطالة في العالم العربي، وعن الإحصاءات المتوقعة لعدد العاطلين عن العمل من الشباب العربي، في المستقبل القريب والبعيد، و نقرأ كذلك كثيرا عن مشكلة ندرة المياه والغذاء التي تطالعنا في الأفق، ونقرأ عن مشكلات تفشي الأمية، وظاهرة الأطفال الذين يمارسون مهناً وأعمالا لا تليق بعمر الطفولة الزاهر، ومشكلات الفقر، وقضايا الحرية التي لا تزال حلما بعيد المنال. فكم هي كثيرة قضايانا العالقة التي تخبأ في الأدراج، وتكفّن بالصمت، وتطوى بالتجاهل! وكم هي كثيرة أحلامنا التي تطؤها أقدام التسلط والقمع والفساد! ولكنّ الزمان لا يبقى على حال، فالحياة في حراك مستمر، والدنيا تدور، وعلى الباغي تدور الدوائر.

 

 

Email