جوليان أسانج رجل العام

ت + ت - الحجم الطبيعي

قال وزير الدعاية في حكومة هتلر النازية، جوزيف غوبلز: «الكذب يجوز الاحتفاظ بسره فقط لوقت تستطيع خلاله الدولة حماية الشعب من العواقب السياسية والاقتصادية والعسكرية للكذب. وتبعا لذلك، يصبح من المهم إلى أقصى حد أن تستخدم الدولة كل سلطاتها من أجل قمع المعارضة، لأن الحقيقة هي العدو المميت للكذب، وبناء عليه فإن الحقيقة تصبح أكبر عدو للدولة». ما قاله غوبلز قبل ستة عقود من الزمن، صدق على ما تواجهه أميركا والعديد من الدول في مواجهة حقيقة الويكيليكس في يومنا هذا.

من جانبه صرح السيناتور ميتشل ماك كونل، زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ الأميركي، في لقاء تلفزيوني بشأن صاحب موقع ويكيليكس جوليان أسانج: «أعتقد أن الرجل إرهابي يستخدم التكنولوجيا المتطورة. لقد ألحق أذى هائلا ببلدنا، وأعتقد أنه يجب محاكمته بكل سلطة القانون، وإذا كانت هناك مشكلة تمنع ذلك، فيجب تغيير القانون». فالذي يعارض أو يختلف مــع أميركا أو يقــول حقيقة لا تعجب أميركا فهو إرهابي. وإذا لم يتوفر قانون لمحاكمة ما تعتبره أميركا إرهابي، فيجب تغيير القانون أو إصداره أو تفصيله حسب رغبات وأهواء الولايات المتحدة الأميركية. فالحقيقة تزعج الأنظمة والسياسات والدول وتكشف عما يدور في الكواليس وتفضح الأكاذيب التي تروج لها تصريحات السياسيين والبيانات الصحفية والمؤتمرات والندوات ووسائل الإعلام المختلفة. هيستيرية ويكيليكس كشفت عن الاختراق الصارخ للحكومة الأميركية للتعديل الأول في الدستور الأميركي والذي يكفل ويضمن حرية التعبير وحرية الصحافة من دون قيود. فلا الحكومة الأميركية ولا وسائل إعلامها وحتى مؤسساتها المختلفة وحتى المجتمع المدني أبدى أي احترام لموضوع مقدس في الأساس وهو دستور البلاد. وهنا نلاحظ التناقض الصارخ بين ما تدعيه أميركا وما تعلن عنه وما تمارسه. النفاق أصبح منهجي ومنظم والحضارة الغربية لم تعد تحترم مبادئها والقيم التي تنادي بها والأسس التي تقوم عليها.

استحوذت قضية ويكيليكس في الشهور الماضية على اهتمام مختلف وسائل الإعلام ومختلف الدول وخاصة الولايات المتحدة الأميركية التي أصبحت أسرار سفاراتها في مختلف بقاع العالم في متناول الجميع. ويكيليكس كشفت عن الوجه الآخر للانترنيت وكشفت عن نفاق الدول العظمى ونفاق الدبلوماسية والسياسة، حيث أن ما يُقال في العلن يختلف تماما عما يجري في الكواليس. هيسترية ويكيليكس كشفت عن خداع النخب السياسية في الديمقراطيات الغربية لناخبيها وعن الكذب والتلاعب والتعتيم والتضليل وعن فساد الحكومات التي تدعي الشفافية وتتغنى بالديمقراطية والحق في المعرفة وحرية الرأي والفكر والتعبير. إن الحرب العشواء التي أطلقتها الديمقراطيات الغربية على جوليان أسانج والعمل على محاكمته واتهامه بكل الاتهامات ما هو إلا عمل يتناقض جملة وتفصيلا مع مبادئ حقوق الإنسان والحريات الفردية المتعارف عليها دوليا. ما لم تستوعبه النخب الغربية هو أن ويكيليكس كشفت عن ثقافة الانترنيت الحقيقية وأكدت أن الديمقراطيات الغربية معرضة مثل أي دولة في العالم إلى الفضائح والكشف عن الأكاذيب والتضليل والتشويه. فالأمر أصبح واضحا للعيان إما التعامل مع الانترنيت والقبول بتداعياته المختلفة وإما غلق الانترنيت والتخلص منه نهائيا.

فالمجتمع الحر والديمقراطي والذي يقوم بعلاقات سياسية واقتصادية سليمة وشريفة ونزيهة لا يخاف الانترنيت ولا ويكيليكس ولا حرية تبادل المعلومات ولا الشفافية، لكن البلد الذي يبني سياسته وعلاقاته على الكذب والنفاق والتضليل والتشويه والتلاعب فإن الشبكة العنكبوتية ستقدم أخباره وأســراره لشعبه وللعالم بأسره. وهذا هو الأمــر الذي عانته أميركا حيث جن جنونها عندما تسربت الوثائق وعندما انتشرت فضائحها في العالم. الغريب في الأمر أن النظام الأميركي يقوم بالأساس على احترام الرأي العام وإخبار الشعب الأميركي بتفاصيل ما تقوم به الحكومة من أعمال ومهام سواء على الصعيد المحلي أو الدولي. فالديمقراطــية الأميركــية تقوم على مبدأ من الشعب وإلى الشعــب وأن الشــعب هــو السلطة الحقيقية في المجتمع. كمــا أن الحكومــة من واجبــها أن تعمل في شــفافيــة تامة وأنها مطالبة بإبلاغ الشــعب بما تقوم به. والسؤال الذي يطرح نفسه في هــذا المقام هــو لماذا انزعجــت أميركــا والدول الغربيــة مــن تسريبات ويكيليكس؟ فجوليان أسانج لم يفتعل أي شيء ولم يزّور أي وثيقة وكل ما فعله هو تقديم معلومات ووثائق للرأي العام، فلماذا الهستيرية ولماذا كل هذه الحرب على موقع في الانترنيت. الأمر بكل بساطة هو الكشف عن المستور والكشف عن التناقض الصارخ بين ما تعلنه الدول الغربية وأميركا للرأي العام وما تقوم به في أرض الواقع. بعبارة أخرى هو الكشف عن النفاق المنظم والكذب المنهجي الذي تمارسه الدول على شعوبها.

من الناحية القانونية، لا موقع ويكيليكس ولا جوليان أسانج مدانان بتهم وبجرائم ولا وجود لأية شبهة أو خروج على القانون. وما تقوم به أميركا وأصدقاؤها ضد أسانج والموقع، غير قانوني البتة. فلا تهم قضائية ولا مسوغ قانوني موجه رسميا ضد أسانج وموقع ويكيليكس، لكن أميركا ودول غربية عديدة جمدت ويكيليكس والتمويلات التي قدمت لتغطية مصاريف الدفاع القانوني عن أسانج، كما حاولت جهات رسمية عديدة إزالة ويكيليكس من الانترنيت. فهذه المواقف كلها تعتبر خارجة عن القانون واضطهاد وإرهاب ضد شخص ومؤسسة لم ترتكب أي مخالفة قانونية. هذا هو تعامل الدول العظمى والدول الفاعلة في النظام العالمي والدول التي تتغنى بالديمقراطية مع من يكشف عن حقائقها ويكشف عن نفاقها ويكشف عن الأعمال غير الأخلاقية التي تقوم بها في العالم.

 

Email