منهجية التعامل مع الأخطاء

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد نحتاج في أحيان كثيرة إلى أن نتأمل أنفسنا وأساليبنا في التعامل مع كثير من الأمور الأساسية في الحياة، ولعل الأخطاء من أهم هذه الأمور. فهل هناك منهجية معتمدة للتعامل مع الأخطاء؟ وهل هي منهجية واحدة أم أن هناك بدائل كثيرة تتيح لنا الاختيار من بينها بما يناسبنا؟

قد تكون هناك بدائل للاختيار، ولكن التعامل مع الخطأ يعتمد بدرجة كبيرة على طبيعته وأسبابه وآثاره، فليست هناك قاعدة واحدة تطبق على جميع الأخطاء. ومهما تختلف أساليب التعامل مع الخطأ، فإن أسلوب التجاهل أو التعامي عنه يشبه إلى حد كبير تغطية إحدى الحفر ببعض المواد الهشة التي لن تصمد أمام وطء الأقدام، وستنكشف للعيان في وقت قصير، فليس من الحكمة إنكار الخطأ، أوالسكوت عنه والتستر عليه، أو تجاوزه كأنه لم يكن. قد يقبل ذلك أحيانا في مواطن بعينها، مع أناس مخصوصين، ولأغراض مقصودة. ولكنّ القاعدة العامة التي تؤكدها التجارب، أن النجاح الراسخ المستمر لا يمكن أن يبنى على رؤية تغض الطرف عن الأخطاء، وتتجاوزها خوفا أو طمعا أو كبرياء وغرورا. وإذا كان هذا الأمر مضرا على مستوى التجارب الفردية، فإنه على مستوى الجماعات والمؤسسات أكثر ضررا وأشد خطرا وأبعد أثرا. فلماذا يميل كثير من الناس إلى تجاهل الأخطاء أو السكوت عنها؟ وما الأضرار المترتبة على ذلك؟

يشير كثير الدراسات النفسية والاجتماعية، إلى أنّ معظم الناس ينشّؤون على تصورات غير صحيحة عن الخطأ؛ إذ يرتبط الخطأ في أذهاننا، في معظم الأحيان، بالنقص الذي هو ضد الكمال، سواء كان هذا النقص نقصا في المعرفة أو الذكاء أو الخبرة، فكأن الخطأ في التصور العام مؤشر على نقص المخطئ، وقلة أهليته. وعلى الرغم من معرفتنا بأن الكمال مطلب مستحيل، إلا أنّنا نتأذى كثيرا حين ينعتنا الآخرون بالنقص أو الجهل أو السذاجة، ولكي نتجنب هذا الأذى وما قد يترتب عليه، فإننا نلجأ إلى إنكار الأخطاء، ويتملكنا الخوف من الاعتراف بها. ولعل تجارب الطفولة تشير إلى جانب كبير من هذا الأمر، فكم من الأخطاء ينكرها الصغار خوفا من إخراجهم من دائرة الثقة والمحبة والكمال. ولعل اهتزاز الثقة بالنفس يعد من أكثر العوامل التي تدفع الإنسان، وربما الجماعات، إلى التعامل مع الخطأ على أنه مصيبة وقعت، لا بد من إيجاد طريقة ما للتستر عليها وتغطيتها، ويتبع ذلك بالطبع الخوف من تحمل المسؤولية، وما يترتب عليه من مواجهة ومحاسبة؛ إذ يميل الإنسان، كما ذكرنا، إلى أن يظهر للآخرين كماله وعبقريته وذكاءه وأهليته، وكل ذلك قد يُخدش ويشوّه حين يوسم بأنه من الذين وقعوا في الخطأ. وهذه الأسباب التي ذكرناها تشير إلى عدم النضج، ورؤية الأمور بمنظور الطفولة التي تبحث عن الرضا، وتستجلب المدح من الآخرين، رغم أن الناجحين الكبار يدعوننا دائما إلى عدم الخوف من الاعتراف بالخطأ، لأننا حين نفعل ذلك «نقول إننا اليوم أكثر حكمة من السابق».

وربما يكون الخطأ الشخصي أخف وطأة وأقل ضررا من الأخطاء المهنية وصور التقصير، التي باتت مستشرية في كثير من المؤسسات والهيئات ودوائر العمل، والتي كثيرا ما تدفن تحت السطح البرّاق بصمت وتجاهل حينا، وبتواطؤ غير معلن حينا آخر. فهذه ضررها يتجاوز صاحبها، ويمتد إلى الآخرين، وقد يصيب بنية المجتمع كله بالضعف والهشاشة. وعلى الرغم من أنّ نتائج هذا الفعل قد لا تظهر واضحة في حينها، إلا أنها مع الوقت ستتضخم وتكبر، ولن يكون تداركها سهلا، ولا علاجها يسيرا. وليس القصد أن نقف عند كل صغيرة وكبيرة، نترصد كل خطأ، ونضعه تحت مجهر الفحص والمحاسبة، فهذا من شأنه أن يرهق الأفراد والمؤسسات، ويشغل الناس عن رسالتهم الكبرى، وأهدافهم بعيدة المدى التي يرومون تحقيقها. ولكنّ سياسة التجاهل والتعامي عن الأخطاء، في المقابل، تقتل عافية المجتمع، وتقوض أركانه، وتمنح الفرص للمقصرين المهملين لأن ينجوا من مغبة تقصيرهم، ويكرروا أخطاءهم، فهي تعطيهم الشعور بالأمان الدائم الذي يفقدهم الإحساس بالمسؤولية الجماعية، ويخرجهم من دائرة المحاسبة التي تعد صمام أمان يحميهم ويحمي من حولهم. ولعل الأمر يتضاعف خطره حين نتجه إلى الكيل بمكاييل مختلفة؛ فنحاسب فئة، ونغض الطرف عن أخرى؛ لأن الفئة الأخرى ستظن أنها محصّنة، وسيدفعها هذا الظن إلى التمادي، في حين تقع الفئة الأولى تحت وطأة الإحساس بالظلم، وكلا الفريقين لن يقدم ما نرجوه من عطاء وعمل. ولن يسهم هذا النهج إلا في تضخيم الذات عند الأولى، وتضخيم السخط عند الثانية. ولا يبدو لي أن بيئة العمل التي يتكاثر فيها أمثال هؤلاء، قادرة على تحقيق مستويات عالية من الإنجاز الحقيقي والنجاح الراسخ المتين. وقد يكون من المهم في هذا السياق أن نشير إلى أن الوقوف عند الخطأ والاعتراف بوجوده، لا يعني بالضرورة معاقبة المخطئ، فليس القصد العقاب في ذاته، ولكن القصد إيجاد سياسة واضحة وناضجة ومسؤولة، للتعامل مع الأخطاء المهنية واتخاذ القرارات العادلة والصحيحة بشأنها.

وإذا كان قادة العمل الإداري يرددون دائما أنه «يجب على الإنسان أن يكون ناضجا بما يكفي ليقر بأخطائه، وذكيا بما يكفي ليتعلم منها، وشجاعا بما يكفي ليصححها»، فإنّ هذا التوجه لدى بعض الأفراد المخلصين الصادقين، قد يغيّب في ظل أجواء تتعامل مع الأخطاء المهنية تعاملا ينبئ عن عدم النضج، وعدم الذكاء، وعدم الشجاعة؛ إذ لا يمكن أن نتصور أن يكثر أمثال هؤلاء المخلصين في بيئات تفتقر إلى الشفافية والعدل والمساواة. وليس من الحكمة أن نتوقع استمرار النجاح في إدارة مؤسساتنا، إذا كان سلوك كثير من قادتها وموظفيها يميل نحو التستر على التقصير والإهمال، والتغاضي عن الأخطاء. وأذكر في هذا السياق أنني سألت، قبل سنوات، أحد المسؤولين في واحدة من أهم مؤسسات الدولة، عن الأسباب التي دفعتهم إلى عدم نشر نتائج أحد التقارير المهمة جدا، فكان جوابه «إذا بليتم فاستتروا»! فلم أجد حينها ما أقوله أمام هذه المفارقة الصارخة.

لا ينكر المرء صور النجاح الكثيرة التي يراها في مجتمعاتنا، ولكنه يطلب في المقابل ألا ننكر صور التقصير أيضا، وأن نتحلى بالنضج والذكاء والشجاعة في التعامل معها، حتى نخرج من دائرة التواطؤ على قبول الأخطاء والتغاضي عنها، وأذكر في هذا السياق عبارة لجبران توقفت عندها يوما «لا يستطيع فاعل السوء بينكم أن يقترف إثما بدون إرادتكم الخفية ومعرفتكم التي في قلوبكم».

 

 

Email