الحفاظ علي البيئة انتماء للوطن

ت + ت - الحجم الطبيعي

سخر الله ما في الكون من مخلوقات لخدمة الإنسان، وأمره أن يحافظ على ما أفاض الله به عليه من فضل، إلا أنه بظلمه جار على بيئته فاختل ميزان العدل في يده، وبجهله أهدر النعم التي أحاطه الله بها، فخربها ودمرها واستنزفها ناسيا أنه مؤتمن عليها. ومن أكبر صور ظلم الإنسان لبيئته، أرضها التي جار عليها فأهملها أو جرفها، وهواؤها الذي لوثه بسموم انسابت إلى أجسامنا وأتت على ما يحيط بنا، بمدنية ظاهرها فيه الخير وباطنها يحمل من معاني الأنانية وضيق الأفق الكثير، ومياهها التي أهدرها وجعل منها مرتعا لمخلفات مصانعه، فرفعت راية العصيان وضنت بنفسها عنه حتى باتت المعضلة التي تواجه شعوب العالم في العقود المقبلة، ناهيك عن زرعها وثرواتها التي يستنزفها دون مراعاة لحقوق من سيأتي بعده، وكأنه بلسان الحال يردد قول الشاعر «إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر»، وجمالها الذي أحاله مسخا، بعد أن بنى وشيد دون النظر لما حوله من آيات ترانيمها التي تحولت إلى إعصار هادر أتى على الأخضر واليابس، لتعلن أنها لن تصمت بعد الآن على ظلم الإنسان لها، وأن ثورتها إذا قامت فمن الصعوبة إخمادها، إلا بعد أن يدفع من تجرأ عليها الثمن مصداقا لقول الله تعالي ؟ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس؟.

إن مشكلة البيئة في جانبها الأكبر، نتجت عن سلوكيات نخبة أنانية نظرت إلى مصلحتها الآنية، متجاهلة من يشاركها العيش أو من سيأتي بعدها. ولقد قال العالم البريطاني «هاريسون» في كتابه «الثورة الثالثة» إن أفقر سكان الأرض هم أخفهم وطأة على البيئة، حيث تشكل فئتهم حوالي خمس سكان الأرض، وهم لا يملكون أرضا يستنزفون تربتها، ولا يتجاوزون على الأشجار فيقطعونها، ولا يسكنون ضفاف الأنهار فيلوثونها. ولا شك أنه بهذا يشير إشارة بالغة الدلالة إلى المجتمعات التي تدعي الحداثة، وبسلوكها تخرب ولا تعمر.. تهدم ولا تبني.. تنظر إلى يومها، وتغض الطرف عن الغد المنظور.

وقد حققت دولة الإمارات، من خلال جهودها المتواصلة واهتمامها بقضايا البيئة، مكانة مرموقة على خريطة العمل البيئي الدولي، وإن كانت هناك أوجاع تتطلب التدخل الجراحي لاستئصالها، إلا أن تجربتها في هذا المجال أصبحت مثالا يحتذى به، منذ أن اختار برنامج الأمم المتحدة للبيئة المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «بطلا للأرض» في العالم، إلى جانب التقدير الدولي في مجال الحفاظ على البيئة، وحرصت دوما على الإعلاء من شأن البيئة والحفاظ عليها، ليس في أراضيها فحسب، بل امتدت أياديها البيضاء لمد جسور التعاون مع الأصدقاء والأشقاء في ما يتعلق بالمشروعات صديقة البيئة.

في يقيني أن إيمان القيادة الرشيدة في دولتنا ــ سلفا وخلفا ــ بأهمية البيئة، تتعمق نتيجة للظروف الطبيعية القاسية التي شهدتها دولتنا، مقارنة بالتطلعات التي كان القادة يريدون أن يروا فيها الدولة. وهذا ما عرف عن الشيخ زايد رحمه الله، من حبه ودعمه لكافة المشروعات البيئية في الداخل والخارج، وما أكده غير مرة حين قال: «لقد عملنا منذ قيام دولتنا على حماية البيئة والحياة البرية، وتوفير كل الأنظمة والتشريعات والبرامج والمشاريع التي جعلت من دولة الإمارات سباقة إلى الاهتمام بالبيئة، ونموذجا يحتذى على المستوى العالمي في الاهتمام بالبيئة وحمايتها وحفظها.. هذه الإنجازات يجب أن تكون حافزاً لنا جميعا، وخاصة لشباب الإمارات جيل المستقبل، لمواصلة العناية بالبيئة والمحافظة عليها سليمة ونظيفة، لأننا إذا لم نفعل فإننا سندمر الموارد التي حبانا بها الله سبحانه.. فهذه الموارد ليست لنا وحدنا، بل هي أيضاً لأبنائنا وأبناء أبنائنا».

وعلى النهج ذاته سار صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حين أكد في أكثر من مناسبة على أن «حمايةَ البيئة وتحقيق التنمية المستدامة في دولة الإمارات العربية المتحدة، ليست تَرفا فكريا أو اهتماما سطحيا، وإنّما هي واجب وطني له جذوره العميقة الضاربة في وجدان الشعب، وله أطره المؤسسية وتشريعاته المتكاملة وآلياته المتطورة، التي أثبتت كفاءتها وفاعليتَها ومقدرتَها على العطاءِ والتجدد».

وما قام به صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم من إطلاق ‬170 طائر حبارى، والتي تم إكثارها في المركز الوطني لبحوث الطيور، لزيادة أعدادها المتناقصة وإعادة توطينها، ليس في دولة الإمارات فحسب، وإنما في منطقة شبه الجزيرة العربية، وهو ما ينم عن الاهتمام الكبير الذي توليه القيادة الرشيدة للبعد البيئي وأهميته في مسيرة الدولة نحو البناء والتشييد.

و إذا كانت مصطلحات مثل الحفاظ على البيئة أو التنمية البيئية أو التنمية المستدامة، قد لاقت رواجا منذ زمن غير بعيد وصارت الآن تتردد على الألسن، إلا أننا نحن شعوب هذه المنطقة من العالم بطبيعتها الخاصة، تربينا على حب بيئتنا رغم قسوتها أحيانا، وتعاملنا معها مستندين على تقاليد توارثناها خلفا عن سلف، قبل أن يرددها العالم، لأنها جزء من تركيبتنا وهوى نفوسنا. فما زلنا وبين ظهرانينا أعلى برج في العالم، نجد سعادة بالغة في استنشاق هواء البر العليل، وما زلنا وقد أفاض الله علينا من خيره، نجد متعة شديدة في الجلوس على رمال أرضنا، نناجيها وتقص علينا رحلة رجال أحبوها فبادلتهم حبا بحب، وحافظوا عليها فكان ردها عطاء بعطاء ؟وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟. وهذا هو البعد الثاني في تعاملنا مع البيئة.

إن الحفاظ علي البيئة عندنا دين نؤجر على إتيان ما أمرنا به، وليس مجرد سلوك حضاري نتباهى به.. دين أمرنا منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، على لسان رسوله الكريم {إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها}، وهذه أعلى مراحل التنمية المستدامة وحق الأجيال القادمة في بيئة سليمة، وتعاليمه التي حافظت على رحابة الطرق ونظافتها، حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أشد الناس عذابا يوم القيامة من يضيق على الناس طرقاتهم}.

في يقيني أنه إذا أحب الإنسان وطنه حافظ عليه. وجدير بنا ونحن على بعد أيام من الاحتفال باليوم الوطني للبيئة، أن يكون ذلك اليوم انطلاقة جديدة، ليكون الحفاظ على البيئة سلوكا عاما ومنهج حياة وقاعدة ننطلق منها في كافة مناشطنا، وأن تتكاتف كافة المؤسسات الإعلامية والتعليمية والمجتمع المدني، للمساهمة في تنشئة جيل يؤمن بأن الحفاظ على البيئة انتماء للوطن.

Email