عقد ثالث من عمر روسيا الحديثة

ت + ت - الحجم الطبيعي

مع مطلع العام الجديد ‬2011، كبداية للعقد الثاني من هذا القرن والثالث من عمر روسيا الحديثة، يجدر بنا أن نلقي نظرة سريعة على العقدين الماضيين اللذين اختلفا عن بعضهما بشكل جذري.

ففي يونيو ‬1991 تم انتخاب أول رئيس لروسيا الحديثة المستقلة وغير التابعة للاتحاد السوفيتي، وكانت المنافسة بين ثلاثة مرشحين، بعد أن قدم كل منهم رؤيته لمستقبل روسيا. واعتبر يلتسين ومؤيدوه الديمقراطيون أن المستقبل المشرق لروسيا لن يتحقق إلا داخل أوروبا، ومن أجل ذلك أبدى يلتسين استعداده للتخلي عن حلفاء الاتحاد السوفيتي السابقين، وسحب القوات من أوروبا دون مقابل، وتصفية الحزب الشيوعي الحاكم، والتوقف عن تنمية الجيش والقوة العسكرية، وقطع التمويل عن المؤسسة الدفاعية ومؤسسة التصنيع العسكري، وفتح الحدود غربا وشرقا مع الجميع، دون تحفظات ولا شروط، ووضع الثروات الطبيعية وخير المؤسسات الصناعية الروسية تحت سلطة نخبة من رجال الأعمال، معروف عنهم انتماؤهم الكامل لمصالح الغرب، ناهيك عن ضلوع معظمهم في عالم المافيا والجريمة في روسيا.

وظل هذا الحال طيلة العقد الأخير من القرن العشرين، وتحمل الشعب الروسي أشد المعاناة خلال هذه السنوات، حيث عرف هذا الشعب الفقر والجوع في حالة السلم، وهو لم يعرفهما من قبل سوى في حالة الحروب العظمى فقط، وبلغت جملة خسائر روسيا من برامج الخصخصة التي طبقت خلال سنوات حكم الرئيس يلتسين، نحو ثلاثة تريليونات من الدولارات. ويمكن القول إن المشروع «الغربي» قد انهار بالفعل، برحيل الرئيس يلتسين عن الحكم في مطلع الألفية الجديدة، وتولي جيل جديد من الشباب الروسي الوطني الحر، الذي بدأ على الفور في السياسات الإصلاحية بقيادة الرئيس الجديد من هذا الجيل فلاديمير بوتين، وانكشفت مخططات الفساد التي وضعها ومارسها من أطلقوا على أنفسهم «الديمقراطيون الروس الجدد»، الذين كانوا لا يرون طريقا لروسيا سوى نحو الغرب، ولم يعد أحد يتحدث عن اندماج روسيا في «البيت الأوروبى»، رغم ان روسيا أصبحت دولة غنية.

وعندما أخفق الديمقراطيون في دخول البرلمان الروسي بسبب انعدام شعبيتهم في الشارع، أرجع الجميع السبب إلى التناقض بين قادة الديمقراطيين، إلا أن السبب الحقيقي هو أن الأرض الروسية نبذت الشجرة السامة الفاسدة التي حاولوا غرسها، وأصبحت ترفضهم، بينما ما زالوا في الغرب يدافعون عنهم، وقد تابعنا مؤخرا الحملة الغربية في واشنطن ولندن ضد روسيا، بسبب محاكمة واحد من أكبر رموز الفساد في عهد يلتسين، وهو ميخائيل خودركوفسكي الرئيس السابق لشركة «يوكوس» العملاقة للنفط.

وعقب خروج روسيا من عباءة الاتحاد السوفيتي، كانت أمامها عدة خيارات. ويمكن القول إن الخيار الديمقراطي الغربي قد فشل فى روسيا، بعد أن ثبت سوء نواياه وتناقضه الشديد مع وحدة أراضي الدولة الروسية الكبيرة، وقد أصبح الآن من المستحيل في عهد النخبة الوطنية التي تحكم روسيا، أن يفرض أحد على روسيا أن تفعل أي شيء ضد مصلحتها. وإذا كان التعاون مع إيران، على سبيل المثال، يحقق مصالح روسيا، فلا بد أن تسعى موسكو للتعاون معها دون أن تأبه بأي انتقادات يمكن أن توجه إليها من أية جهة، وإذا كان من مصلحة روسيا أن تساعد فنزويلا في أقصى الغرب فسوف تساعدها، وإذا سعى أي أحد للإضرار بمصالح روسيا وأمنها فسوف ترد عليه بالقوة، ولن تأبه لمن يقف وراءه أو يدعمه، وهذا ما حدث عام ‬2008 مع جورجيا التي تستضيف على أراضيها قاعدة عسكرية أميركية، ورغم هذا كله يجب على روسيا في الوقت نفسه، أن تتجنب أي مواجهة مع الغرب.

لكن يجب أيضا هنا التحذير من المبالغة والتمادي في سياسة العسكرة وتطوير الجيوش، على حساب أحوال الشعب الروسي، حيث لا بد أن يتركز اهتمام الحكومة على توفير الحياة الكريم وحماية أمن المواطن الروسي ودعم وتطوير الأجهزة الأمنية، ولا داعي لتخصيص ‬70٪ من الاقتصاد لمجمع الصناعات العسكرية، كما كان الوضع في الاتحاد السوفيتي. كما يجب على روسيا أن تولي اهتماما كبيرا للمسألة القومية، التي بدا فيها الخلل واضحا في الآونة الأخيرة بشكل يمكن أن يهدد أمن وكيان ووحدة الدولة، خاصة وأن المسألة القومية وصراع القوميات كانا من الأسباب الرئيسية وراء انهيار الاتحاد السوفيتي، باعتراف الجميع.

كما أن الواقع الدولي والإقليمي، يفرض على روسيا أيضا بناء علاقات متميزة مع دول الفراغ السوفيتى، وإذا كانت الأنظمة التي ظهرت في هذه الدول عبر «الثورات الملونة»، مثل «الثورة الوردية» في جورجيا والبرتقالية في أوكرانيا، بدأت تواجه أزمات ومصاعب، وتعاني من عدم الاستقرار، فإن على روسيا أن تبذل جهودها لتحقيق الاستقرار في هذه الجمهوريات، لأن الاضطرابات فيها، حتى لو أطاحت بالأنظمة المناوئة لموسكو، لن تكون في صالح روسيا كما يتصور البعض، وهذا ما لاحظناه في قرغيزيا بعد ذهاب حكم باكاييف.

وقد تمكن الكريملن فى المرحلة الراهنة، من فصل عملية بلورة استراتيجية تنمية البلاد سياسيا واقتصاديا وآلياتها، عما يسمى بالرأي العام، بغية محاصرة إمكانية التلاعب بالرأي العام من قبل الجهات الخارجية.

ويبدو واضحا من خلال قراءة تطورات الأحداث على مدار الشهور الماضية، أن روسيا تسير في اتجاه صحيح، بعد أن تمكنت من إصلاح النظام المسمى «الرأسمالية الاوليغارشية» (أي النظام الذي يخدم زمرة من أصحاب المال والنفوذ)، الذي أنشئ خلال حكم يلتسين، وأصبح النظام الحالي يجمع بين دور الدولة في المجالين السياسي والاقتصادي، والسوق الحرة التي تمثل الدولة ذاتها عنصرا مهيمنا فيها.

Email