رياح الفشل

ت + ت - الحجم الطبيعي

مع نهاية العام الثاني بعد فوز باراك أوباما بمقعد الرئاسة، وما يقرب من سنتين على الجهد الكبير الذي بذلته الإدارة الأميركية من أجل إحياء عملية السلام، تعود الأمور إلى ما كانت عليه بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل أسوأ بكثير مما كانت عليه. يتراجع الدور الأميركي، ومعه تتراجع آمال الكثيرين ممن راهنوا على طفرة حماسية أصابت الرئيس أوباما، الذي خاض حملته الانتخابية تحت شعار التغيير، لكن التغيير لم يحصل سوى في الخطابات الرنانة الواعدة التي أطلقها من القاهرة، والعاصمتين التركية والإندونيسية.

ويبدو أن إدارة الرئيس أوباما قد أخذت بخط التراجع المنظم والمتدرج، أمام تطرف وتعنت الحكومة الإسرائيلية، التي وظفت كل أدواتها الفاعلة في الولايات المتحدة، لتحجيم الطموحات المتسرعة، وربما غير المدروسة جيداً، للرئيس الذي يترتب عليه مراعاة إسرائيل وجماعات الضغط في الداخل الأميركي، إن كان عليه أن يتطلع لولاية رئاسية ثانية.

لقد وظفت إدارة الرئيس أوباما، الكثير من الإمكانيات، وقدمت لإسرائيل الكثير من الوعود والإغراءات، ومارست الكثير من الضغط على الفلسطينيين والعرب، لكن كل محاولاتها لتحقيق التسوية خلال السنوات الأربع من ولاية أوباما الرئاسية، قد ذهبت أدراج رياح التعنت الإسرائيلي.

لم يعد ثمة مجال للتفاؤل، ولم يعد ثمة وقت تصرفه الإدارة الأميركية بدون طائل على ملف شديد التعقيد، وبات عليها أن تبحث عن ملفات أخرى أقل تعقيداً، عسى أن يؤدي النجاح في معالجتها، إلى تعزيز فرص الرئيس الوحيد الأسود الذي تدخل قدماه البيت الأبيض.

من العبث الحديث عن تناقض المصالح الأميركية والإسرائيلية، وعبث المراهنة على إرادة أميركية تعلو فوق الإرادة الإسرائيلية، فحين تكون الدولة الفلسطينية والتسوية مصلحة أميركية قومية واستراتيجية، يكون لإسرائيل القدرة على إرغام الإدارة الأميركية لمراجعة حساباتها، وتكييف مصالحها واستراتيجياتها مع المصالح والاستراتيجيات الإسرائيلية.

أما وقد بدأ الجهد الأميركي إزاء إحياء ودفع عملية السلام بالتراجع، فإن الظروف باتت مهيأة أكثر لإسرائيل القوية، لأن تملي على الآخرين أجندتها وأولوياتها.

في ظل تراجع ثم توقف الدور الأميركي بعد فترة قصيرة، فإن الطبيعة لا تقبل الفراغ، ومن يملك القوة والإرادة هو الأقدر على ملء الفراغ، فطالما أن جعبة الفلسطينيين والعرب خاوية من الخيارات الحقيقية، فإن جعبة إسرائيل مليئة بالخيارات.

ليست مصادفة، أن تتزامن نهاية العام، ونهاية الجهد الأميركي الحقيقي إزاء دفع عملية السلام، مع الذكرى الثانية للحرب المجرمة التي شنتها إسرائيل في السابع والعشرين من ديسمبر ‬2008 على قطاع غزة، وألحقت دماراً واسعاً لا يزال شاهداً على ظلم الحصار، وتواطؤ المجتمع الدولي، وعجز الفلسطينيين والعرب، وأن يتزامن ذلك مع تصعيد إسرائيلي سياسي وعسكري واستيطاني.

على الصعيد السياسي، يعلن بنيامين نتنياهو ووزير خارجيته المأفون أفيغدور ليبرمان، مناورة سياسية مكشوفة الأبعاد والأغراض، فهو لا يرى إمكانية لدفع عملية السلام إلا إذا وافق الفلسطينيون على واحد من خيارين، أحلاهما علقم. يعرض نتنياهو حلاً مرحلياً بعيد المدى، استدعاه من جعبة رئيس الحكومة السابق أرئيل شارون، وإما أن يمضي إلى أبعد مدى، حتى لو أدى ذلك إلى الإطاحة بائتلافه الحكومي القائم، إذا وافق الفلسطينيون على يهودية الدولة. وفق الخيار الأول الذي يطرحه نتنياهو، لا أمل للفلسطينيين بأكثر من كيان على مساحة ‬42٪ من الضفة الغربية، وذلك استناداً لتفسير كان شارون قد قدمه حين طرح هذا الخيار عام ‬2001. أما الخيار الثاني فهو يعني بالنسبة للفلسطينيين قراراً بالانتحار الذاتي، من حيث أن الموافقة على يهودية دولة إسرائيل، تعني شرعنة سياسة الترانسفير، عدا عن كونها تجتث حق عودة اللاجئين من الجذور، ودون ضمان موافقة إسرائيل على بقية الحقوق الفلسطينية. الحديث عن هذه الخيارات، يساوي في أبعاده قراراً صريحاً بأن إسرائيل ترفض اليوم وغداً، أي حل سياسي من شأنه أن يحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، حتى استناداً إلى ما توافق عليه الولايات المتحدة من هذه الحقوق. يترافق هذا التصعيد السياسي مع تصعيد وتهديدات إسرائيلية عسكرية بشن عدوان واسع آخر على قطاع غزة. من أجل ذلك وفي إطار التحضير لهذا العدوان، تقوم إسرائيل بحملة علاقات دولية للتحريض على الفلسطينيين، وتقدم تقارير كاذبة مبالغا فيها، عن القدرات العسكرية لفصائل المقاومة. مجنون فقط هو من يصدق ما تدعيه إسرائيل، من أن حماس نقلت قواعدها الصاروخية إلى سيناء، وكأنها تحرض مصر لاتخاذ إجراءات ضد الحركة التي تسيطر على قطاع غزة. أما من يصدق الادعاء الإسرائيلي بوجود خمسمائة مدرب أجنبي في القطاع، فإنه فاقد العقل. إن إسرائيل تصعد من فزاعة الأمن على حدودها مع قطاع غزة، وجنوب لبنان، وسياسياً ضد السلطة الفلسطينية، مستثمرةً حالة الانقسام والصراع الفلسطيني، وحالة الانقسام والصراع العربي، من أجل خلق المزيد من الوقائع على الأرض، بما يفتح المجال أكثر لمواصلة احتلالها للأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة منذ عام ‬1967. أما على صعيد الاستيطان والتهويد، فحدث ولا حرج، إذ لم يعد بمقدور المتابعين لأمور السياسة، ملاحقة الإعلانات والإجراءات الاستيطانية في مختلف أنحاء الضفة الغربية، وفي القدس التي يتهاوى فيها الوجود الفلسطيني ورموزه شيئاً فشيئاً.

هكذا تستعيد إسرائيل المبادرة، وتربك خصمها الفلسطيني والعربي، الذي يتغذى على ردود الفعل، والمبادرات المجزوءة، وبطيئة الحركة، ولا تستجيب للتطور السريع الذي يميز السياسة الإسرائيلية.

لقد أعلنت الولايات المتحدة عملياً عجزها وفشلها في دفع عملية السلام وتحقيق تسوية، وابتلعت إدارة الرئيس أوباما وعودها ومواقفها، وأعلنت إسرائيل بوقاحة عن جوهر وأبعاد وأهداف سياساتها، وعن وسائلها العدوانية لتحقيق تلك السياسات، فيما يختلف الفلسطينيون والعرب على تحديد أولوياتهم وتجديد خياراتهم واستراتيجياتهم، لمقابلة التحديات التي تنتظرهم خلال العام الجديد.

 

Email