حقوق الإنسان وعصر الويكيليكس

ت + ت - الحجم الطبيعي

أكثر من ستين سنة مرت على ذلك اليوم التاريخي لتحرير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ما هي الدروس وما هي العبر- وأين نحن من واقع هذه الحقوق- وهل حقا استفادت الإنسانية من دمار الحربين العالميتين، ورضخت لمنطق التعايش السلمي والتكافل الإنساني العالمي- !

منطق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يقوم أساسا على المفهوم الواضح والنقي للعدالة في المعاملة والمقاييس والمعايير، وعدم التمييز والتفرقة بين الشعوب والأعراق والأجناس، سواء كانوا من سكان الشمال أو الجنوب أو كانوا ينتمون لدول فقيرة أو غنية. العقود الستة الماضية تشير إلى انتهاكات وتجاوزات عديدة، تفننت فيها الدول نفسها التي شاركت في تحرير الإعلان، والتي نصبت نفسها مسؤولة عن البشرية جمعاء، لكن وفق وجهة نظرها ورؤيتها هي!

يحتفل العالم في العاشر من ديسمبر من كل سنة بذكرى ميثاق حقوق الإنسان الذي وضع سنة ‬1948، والعبرة ليست في الذكرى بقدر ما هي في التطور التاريخي لهذا الميثاق، ولممارسة حقوق الإنسان في أرض الواقع. والملاحظ أنه منذ البداية الأولى، أي سنة ‬1948، كانت الانطلاقة خاطئة وكانت هناك ازدواجية في المقاييس والمعايير، حيث أنه في تلك الحقبة كانت دول وأمم وشعوب ترزح تحت نير الاستعمار، ولم يتطرق لها الميثاق ولم يولها أي اعتبار. ما هو الوضع في أيامنا هذه، أيام النظام الدولي الجديد والعولمة والعصر الرقمي وثورة المعرفة- وما الوضع ونحن في نظام القطبية الأحادية- وهل تمت عولمة ميثاق حقوق الإنسان- أم أن هناك فاعلين في النظام الدولي يستعملون المصطلح والمفهوم وفق معطياتهم ومصالحهم- وهل بإمكاننا الكلام عن عالمية حقوق الإنسان أم عولمة حقوق الإنسان-

ما يمكن قوله أن حقوق الإنسان، مثلها مثل الديمقراطية ومصطلحات عديدة أخرى، أصبحت سلطة تمارس وتوظف في لغة السياسة والدبلوماسية، وتستعمل كوسيلة ضغط على عدد كبير من الدول التي تخرج عن سكة صانعي القرار في النظام الدولي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ميثاق حقوق الإنسان منذ ظهوره، اتسم بثغرات ومصطلحات مبهمة وتناقضات عديدة، تختلف مع قيم الكثير من المجتمعات ومعتقداتها الدينية وتقاليدها وعاداتها الخ. وإذا رجعنا إلى فلسفة حقوق الإنسان وإلى الثورة الفرنسية تحديدا، نجد أن المحور الأساسي يتعلق بترسيخ الشعور في نفسية المواطن، بالتحرر من الاستبداد والعبودية والتبعية وطغيان طبقة أو فئة معينة في المجتمع على باقي الطبقات والشرائح الاجتماعية، وهذه الأمور، مع الأسف الشديد، قائمة وموجودة داخل الدول وعلى مستوى العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل بإمكاننا أن نضمن حقوق الإنسان لمواطني دولة مستعمرة (بفتح الميم)- وهل بإمكاننا ضمان حقوق الإنسان في دولة تابعة ومسيطر عليها خارجيا من قبل دولة أو دول أو نظام دولي-

إشكالية حقوق الإنسان معقدة، ومن أهم التناقضات التي يعيشها العالم في هذا المجال، ما يلي:

- نلاحظ أن دولة مثل الولايات المتحدة الأميركية، التي نصّبت نفسها رقيب وحامي حقوق الإنسان في العالم، تضرب عرض الحائط بهذا المبدأ في بلدها وداخل حدودها، عندما يتعلق الأمر بالأقليات، مثل السود والهنود الحمر (السكان الأصليين لأميركا) والأقليات الأخرى ومنهم العرب، ونلاحظ كم من مواطن عربي اتهم وسجن وطرد من أميركا، دون محاكمة ودون أدلة قاطعة ودون عدل ولا شرع. وما ينسحب على أميركا ينسحب على معظم الدول الأوروبية والدول المتقدمة الأخرى. ففرنسا مثلا، في تعاملها مع المسلمين ومع مواطني شمال إفريقيا، تبتعد كليا عن حقوق الإنسان، وعدم الاعتذار للجزائر وغيرها من الدول التي استعمرتها، تبقى وصمة عار على دولة تدعي «الحرية ـ الأخوة ـ المساواة» في شعاراتها وأدبياتها السياسية.

- نلاحظ كذلك أن الدول الفاعلة في النظام العالمي، تساند وتدّعم أنظمة مستبدة ودكتاتورية في العالم الثالث، وهذا يتناقض جذريا مع مبدأ حقوق الإنسان، حيث تنعدم الحريات الفردية وحرية الفكر والرأي والتعبير والفصل بين السلطات. بل إن دولا غربية تدخلت لإطاحة نظم انتخبت بطريقة ديمقراطية في العالم الثالث، فمبدأ حقوق الإنسان بالنسبة للدول الغربية ينتهي عندما تبدأ مصالحها.

نلاحظ أن هذه الدل، أيضا، تكيل بمكيالين إذا تعلق الأمر بإسرائيل وبأطفال فلسطين وبالغارات على جنوب لبنان واحتلال الجولان، أو بالاغتيالات الصهيونية المتكررة لقيادات وشخصيات فلسطينية وعربية.. وحتى غير عربية، مثل الكونت برنادوت. وهكذا أصبح مبدأ حقوق الإنسان وسيلة في يد الدول القوية، للضغط وإدارة شؤون العالم وفق ما تمليه عليها مصالحها وأهدافها الاستراتيجية، بل إن بعض المنظمات غير الحكومية التي تعنى بشؤون حقوق الإنسيان، قد تم تسييسها وانحازت لدول ولمصالح وأيديولوجيات معينة، على حساب خدمة مبدأ إنساني عالمي لا يعرف في الأساس حدودا ولا جنسيات. فكيف يكون مستقبل حقوق الإنسان في ظل عولمة لا تؤمن بخصوصية الشعوب ولا بالشعوب المستضعفة، عولمة همها الوحيد هو سلطة المال والسياسة والقوة! التحدي يكون أساسا في القيم الإنسانية والأخلاقية، وإذا سيطرت ثقافة انعدام الأخلاق وانعدام القيم على علاقات الشعوب والدول، فسيكون المصير هو الانهيار والموت البطيء، وهذا ما أكدته ويكيليكس من خلال التسريبات التي كشفت فضائح العلاقات الدبلوماسية بين الدول الكبرى وباقي دول العالم، وانعدام الأخلاق والقيم الإنسانية في العلاقات الدولية.. وإذا ذهبت الأخلاق ذهبت الأمم والشعوب.

 

Email