حكاية المليارات الأربعة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يجلس الفقراء المُعدمون، حول مواقد الحطب، التي تنتج من الدخان اكثر مما تشيع من الدفء، لا يجد رب العائلة المغلوب على أمره، والعاجز عن توفير اقل مستلزمات الحياة لأسرته، الا الوعد، ووعد الفقير المعدم يستند الى كلمة "لو".

"لو ارسل لي الله من غامض علمه الف دينار فسأشتري لكم ثلاثة أرطال من اللحم".

وهنا تتدخل الزوجة المسؤولة عن تنظيم الحرمان وترتيب شظف العيش قائلة:

الا ترى ان ثلاثة أرطال من اللحم مرة واحدة، هو تبذير، اذ يكفينا رطل واحد.

يجيب الرجل الذي اصبح مصدر الامل من خلال كلمة "لو"

"يا حرمة متكونيش قطاعة رزق خللي الاولاد يوكلو تيشبعوا".

منتدى دافوس الاقتصادي نجح بصورة ملفتة في ان يكون منبرا عالميا، يتحدث فيه قليلو الحيلة عن آمالهم وتطلعاتهم، ففي هذا المنتدى العالمي مواصفات مكتملة لسوق عكاظ .. حيث يتبارى الخطباء في تقديم افضل ما لديهم من لغة بليغة، تتحدث عن امر واحد هو "مزايا السلام" في الشرق الاوسط، وحتمية توفر الارادة المشتركة لتحقيقه، وحين يصل الامر الى حكاية "المعدم واللحم"، يقول الخطباء: وبهذا تنعم شعوب المنطقة بالسلام والأمن والرفاه.

في "دافوس- الشونة" حيث المدينة الاردنية المضيافة، التي يقطعها الفلسطينيون ذهابا وايابا. انتشر ربيع كلام بليغ، واغدقت فيه الامنيات، وكان سيد المناسبة هو الوزير المحترم جون كيري الذي تحدث عن اربعة مليارات دولار كرأسمال اولي للسلام الاقتصادي، الذي لا بد وان يتزامن مع السلام الامني والسياسي. ويبدو ان السيد كيري الرجل المخلص في سعيه، سيعتمد كثيرا في هذا الامر على السيد طوني بلير، الذي بدوره سوف يعتمد على رئيس شركة كوكا كولا، لتحفيز الشركات العملاقة على الاستثمار في فلسطين، كي يأكل الفقراء حتى يشبعوا.!!

هذه المليارات الاربعة، ولكي تضخ في عملية اقتصادية فعالة ومنتجة، تحتاج كما يقول السيد كيري الى قرارات مؤلمة، يتخذها الفلسطينيون والاسرائيليون للجلوس على مائدة المفاوضات، والبدء في مسار سياسي اقتصادي امني جديد، ينعش الامال بعودة الحياة الى عملية السلام المحتضرة، ويفتح الابواب امام سلام يشيع الامن والاستقرار في المنطقة، وربما في العالم بأسره.

ومع انني من الذين ايدوا بقوة وبصورة صريحة جهود السيد كيري، التي قوبلت بحذر شديد من جانب الفلسطينيين، وباستخفاف أشد من جانب الاسرائيليين، الا انني ارى ان نوايا السيد كيري المخلصة بحاجة الى روافع اسرائيلية قبل ان تصبح حقائق سياسية ملموسة، واقول روافع اسرائيلية، لان اسرائيل وحدها من يضع العصي في دواليب كيري، ووحدها من يقود حملة نشطة ضد مشروعه ، بلغت حد اتهامه بالسذاجة المفرطة، وانعزاله عن الواقع واستسهاله اختراق المستحيل بالكلام الجميل!!

والى جانب الروافع الاسرائيلية التي يبدو انها لن تتوفر على المدى المنظور، فهو بحاجة الى روافع امريكية، وقد يتساءل البعض باستغراب كيف يحتاج وزير خارجية امريكا الى روافع امريكية ، فهو صاحب القرار الاعلى ، وحين سمي وزيرا للخارجية صفق له الكونجرس وقوفا كتعبير عن التأييد والدعم.

الجواب . ان الرافعة الامريكية لجهود كيري، يجب ان تظهر اذا لم يتخذ اطراف النزاع الفلسطينيون والاسرائيليون تلك القرارارت المؤلمة التي طلبها كيري ومنح الطرفين مهلة قصيرة لاتخاذها.

فماذا سيفعل؟ هل سيفرض على اسرائيل اولا ان تقبل بمبادرة يعدها هو لانهاء النزاع، وضمن المسارات الثلاثة الاقتصادية والأمنية والسياسية؟

هل ستوضع الامكانات الامريكية العملاقة، بتصرف كيري كي يذعن الاسرائيليون لخطته، وليس لخطط ومطالب الفلسطينيين والعرب؟

ام سنشهد تخليا تدريجيا عن الحزم اللغوي، الذي ظهر في البدايات، لمصلحة العودة مرة اخرى الى دبلوماسية الاقناع، التي سار عليها الامريكيون مع اسرائيل عقودا من الزمن ولم تؤدي إلا لمزيد من الابتعاد عن عملية السلام، لدرجة ان من يحاول وحتى لو كان وزير خارجية امريكا، يتهم بالسذاجة وسوء التقدير.

ان المليارات الاربعة الموعودة، بالغة الاهمية بالنسبة للفلسطينيين، وعطف رئيس الكوكا كولا على اهمية الاستثمار في بلدنا الفقير امر قدره رجال الاعمال وسال لعابهم، حتى انهم تقدموا بمبادرة لدعم هذا التوجه..

ولكن ... تبقى الحلقة المفقودة التي يتعين على الوزير المحترم جون كيري ايجادها، وهي الاسنان الامريكية الحادة، التي تعطي للمبادرات السياسية والامنية والاقتصادية مضمونها ومصداقيتها، وتفرض على صناع القرار في اسرائيل عقلانية وايجابية، فهل هنالك انياب من هذا القبيل، يمكن رؤيتها على المدى المنظور، ام ستعود من جديد الى امنيات الفقراء المعدمين؟

سنرى بعد انقضاء الاسبوعين.
 

Email