كيف سينتهي هذا الوضع العربي الصعب؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت أسافر عبر اليمن، وسورية، وتركيا في سياق إعداد فيلم وثائقي عن الكيفيات التي أسهمت بها الضغوط البيئية في إنتاج الصحوة العربية. وبينما أنظر خلفي في تفاصيل الرحلة، خطر لي أن ثلاثا من شخصياتنا الرئيسية -قائدي القريتين اليمنيتين اللتين تتقاتلان على بئر ماء واحدة، وقائد الجيش السوري الحر في محافظة الرقة، الذي دمر الجفاف مزرعة القطن التي كان يملكها- أنجبوا وحدهم ما مجموعه 36 من الأبناء: 10، و10، و16.

هذا هو السبب في أنك لا تستطيع الخروج من رحلة كهذه بدون أن تتساءل، ليس عن "من سيحكم" في هذه البلدان فقط، وإنما عن "كيف سيستطيع أحد أن يحكم" في هذه البلدان أيضاً؟

بطبيعة الحال، يجب أن نتمنى لأولئك الذين ينطوون على تطلعات ديمقراطية مخلصة أن يفوزوا ويسودوا، لكن من الواضح أن نسختهم ليست هي الرؤية الوحيدة المطروحة على الطاولة. إن تطلعات الديمقراطيين تضطر إلى التنافس مع الجماعات الإسلامية والطائفية والقبَلية، والتي لها أيضاً جذور عميقة في هذه المجتمعات. ولكن، وبغض النظر عن أي التيارات هو الذي ينتصر، فإن القضية الحقيقة هنا هي ما إذا كانت 50 عاماً من الانفجار السكاني، وسوء الإدارة البيئية والجمود التعليمي قد جعلت من بعض هذه البلدان غير قابلة للحكم من طرف أي جماعة أو أيديولوجيا.

في مصر، واليمن، وسورية، من الشائع رؤية صفوف المدارس الابتدائية وهي تضم 60 إلى 70 طفلاً مع مدرس واحد غير مدرّب، وبدون حواسيب ولا تدريس في العلوم. كيف سينال الأولاد الستة والثلاثون الذين قابلت والدهم الفرصة في عالم حيث لا تحل الروبوتات فقط محل العمال من ذوي الياقات الزرق فقط، وإنما تحل فيه البرمجيات باطراد محل وظائف "الياقات البيضاء" أيضاً -وحيث لا يستطيع البعض منهم العودة إلى مزرعة العائلة لأن الماء والتربة السطحية استنفدت.

ثم أستعرض حال منطقة الحدود التركية إلى تل الأبيض في شمال سورية، وأرى بنايات مهدومة، وخطوط كهرباء مقطوعة مسدلة على الأرض، وبيوتاً نصف منجزة، وحفرة واسعة في برج لتخزين الحبوب، فأفكر: إنهم ليسوا متخلفين وعالقين وراء فقط، وإنما تستمر هذه الحرب في تدمير القليل الذي تبقى لديهم. إنهم واقعون في حفرة أصلاً، لكنهم ما يزالون يحفرون.

لعل الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تلحق بها تلك البلدان بالركب، هي أن يتحد هؤلاء الناس معاً من أجل تحشيد كل قوتهم. إن الحل هو أن يعمل السنة والمسيحيون والعلويون في سورية معاً؛ وأن تعمل القبائل في ليبيا واليمن معاً؛ وأن يفعل الإخوان المسلمون، والسلفيون والليبراليون في مصر ذلك أيضاً، خصوصا فيما يتعلق بتطبيق الإصلاحات التي يوصي بها صندوق النقد الدولي. في عالم اليوم المعولَم، سوف تتخلف وتذهب إلى الوراء أسرع وباطراد إذا لم تكن عاكفاً على بناء التعليم، والبنية التحتية والأسس الاقتصادية، حتى تستفيد من مزايا هذا العالم -وسوف تلحق بالآخرين أسرع إذا فعلت.

لكن جلب الناس معاً يتطلب وجود الثقة -ذلك الشيء المحسوس القائم على فكرة أن بإمكانك أن تكون أنت الحاكم، حتى لو كنت قادماً من قبيلة مختلفة، أو طائفة أو حزب سياسي مختلف- وهذا هو الأمر المفقود هنا. وفي ظل غياب أي قادة من نوعية نيلسون مانديلا في العالم العربي، من القادرين على بناء الثقة والمتشوفين إليها، فإنني لا أرى كيف يمكن لأي من هذه الصحوات العربية أن تنجح. ولا يغيب عن تفكيري ذلك القائد في الجيش السوري الحر، الذي تحدثت عنه في موضوع سابق، والذي عرّفني إلى فريق قيادته: "ابن أخي، ابن عمي، أخي، ابن عمتي، ابن أختي، ابني، ابن خالي..." ماذا يقول لكم ذلك؟

يمكننا الإجابة بطريقة مناسبة فقط عن السؤال -هل علينا أن نقوم بتسليح الثوار السوريين؟- إذا أجبنا أولاً عن أي نوع من سورية هو الذي نريد أن نراه ينجم، وما الذي يتطلبه الأمر، غير الأسلحة، حتى نصل إلى هناك؟

إننا إذا ما أردنا أن يسقط نظام الأسد وأن تظهر الديمقراطية والتعددية في سورية، فإننا لن نحتاج إلى تسليح الثوار وحسب، وإنما سنحتاج إلى تشكيل قوة حفظ سلام دولية تدخل سورية بمجرد سقوط النظام للمساعدة في إدارة عملية الانتقال. وبغير ذلك، وعندما يتم إسقاط الأسد، سوف تكون هناك حربان أخريان قادمتان على الأقل في سورية. الأولى ستكون الحرب بين السنة والعلويين، الطائفة التي يمثلها الأسد. وسوف يقاتل العلويون للدفاع عن مزاياهم ووجودهم. وبعد ذلك، ستكون هناك حرب أخرى في داخل صفوف المعارضة نفسها -بين الإسلاميين والقوى المقاتلة الأكثر علمانية، التي تتبنى وجهات نظر بالغة الاختلاف حول مستقبل سورية. ولا يمكن سوى لقوة حفظ سلام خارجية أن تعوض غياب الثقة والرؤى المشتركة، وتحاول صناعة سورية جديدة. وستكون تلك طريقاً طويلة طويلة.

إذا كانت غايتنا هي تسليح الثوار فقط لخدمة مصالحنا الاستراتيجية -إسقاط نظام الأسد ووضع نهاية لنفوذ إيران وحزب الله في دمشق، وبحيث لا نعبأ بما سيأتي تالياً- فسيترتب علينا آنئذ أن نكون مستعدين لتقسيم سورية المرجح إلى ثلاث مناطق: واحدة سنية، واحدة علوية، وثالثة كردية.

ربما سيكون من شأن ذلك أن يحل في النهاية مشاكل الثقة والحرب الأهلية، حيث سيعيش كل طرف "وحده وبطريقته"، لكنني لست واثقاً من أن ذلك سيكون أفضل الخيارات لتمكين السوريين من معالجة مشاكلهم التنموية.

سوف يكون الخيار الثالث هو تسليح الثوار -فقط لضمان بقاء حالة الجمود والطريق المسدود- على أمل أن تصبح الأطراف منهكة في نهاية المطاف بما يكفي لتقدم على إبرام اتفاق بنفسها. لكنني، مرة أخرى، أجد من الصعب رؤية الكيفية التي يمكن بها لأي صفقة أن تضع سورية على الطريق الطويل والصعب في اتجاه إقامة نظام سياسي محترم وشامل، والذي يمكن تطبيقه من دون مساعدة خارجية تكون موجودة على الأرض للمساعدة.

وهكذا، دعونا نقُم بشيء جديد: أن نفكر بخطوتين إلى الأمام. وقبل أن نبدأ بإرسال البنادق إلى المزيد من الناس، دعونا نسأل أنفسنا لأي غايات محدودة بالضبط نريد استخدام هذه البنادق، وماذا سيكون مطلوباً منهم ومنا غير ذلك من أجل تحقيق تلك الغايات؟.
 

Email