ليست نكبة واحدة بل نكبات فلسطينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

 في مثل هذا اليوم من عام 1948 كان الشعب الفلسطيني على موعد مع فصول مؤامرة اغتصاب أرضه والحكم عليه بالاغتيال والنفي والتهجير والتشريد، وبإلغاء كيان الدولة الفلسطينية وطمس الهوية العربية الإسلامية منها بما تحمل من تراث راسخ في أعماق التاريخ، حيث نكب هذا الشعب بتهجير أكثر من 750 ألف فلسطيني وتدمير أكثر من 500 قرية فلسطينية على أيدي العصابات الصهيونية التي سعت مدفوعة بقوى التآمر والاستعمار إلى محو فلسطين وإقامة كيان الاحتلال الصهيوني على أنقاضها.

ومنذ ذلك اليوم يحيي الشعب الفلسطيني هذه الذكرى الأليمة من كل عام، وعلى وقع هذه الذكرى الـ(65) تواصل قوى الإجرام والإرهاب الصهيونية سياساتها العدوانية والعنصرية ضد الشعب الفلسطيني والمقدسات الإسلامية، حيث تتالت الدعوات التي توزعها قطعان المستوطنين في مدينة القدس المحتلة وعبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لما تسميه هذه العصابات الصهيونية بـ"الحج الجماعي" إلى الأقصى اليوم وغدًا الخميس بمناسبة ما تدعيه تلك القطعان عيد نزول التوراة، إذ تزمع هذه العصابات الصهيونية النزول بجماعات كبيرة جدًّا للاحتفال في باحات المسجد الأقصى، حيث تتضمن فعاليات التدنيس، "احتفال" قطعان المستوطنين بأبنائها الذين وصلوا إلى سن البلوغ والآخرين للختان، وكذلك إقامة فعاليات ترفيهية كالقصص والمسابقات، وستستباح حرمة أماكن العبادة التي خصصت لعبادة الخالق، وستجوب هذه القطعان حارات وأزقة البلدة القديمة للمطالبة بحرية صلاة اليهود داخل الأقصى، وذلك كله تحت سيطرة وحماية من قوات شرطة الاحتلال الصهيوني.

تأتي هذه الذكرى وقد غدا واقع الفلسطينيين مقسومًا بين جناحين، جناح يرفض المقاومة رافعًا شعار "لا عسكرة للمقاومة"، وقد رهن قدر قضيته ومآلاتها بما قد تجود به الأيام أو تتفضل عليه به القوى الحليفة والداعمة للاحتلال من فتات على موائد مفاوضات ثبت أنها عقيمة عُقمًا لا يُرجى برؤه، ويرفض الخروج من قفص رهانه هذا، بينما ظل الجناح الآخر حائرًا تائهًا أي الطريقين يسلك؟ طريق المقاومة أم طريق "فاوض، ثم فاوض، ثم فاوض، ولكن بدون مقاومة"؟ وذلك بسبب الوضع العربي الراهن وحالة التشرذم والتنازع والصراع بين معسكري "الاعتدال والممانعة". انعكست هذه الازدواجية بين الجناحين على مشروع المصالحة الوطنية الذي لا يزال يراوح مكانه، وبالتالي غدا الواقع الفلسطيني بأكمله عبارة عن نكبات مركبة تؤجج في النفوس آلام النكبة الأولى، فلم يقتصر أمر مراكمة النكبات على الاحتلال الصهيوني، بل تعدى إلى من كانوا بالأمس وقبل انطلاق "ربيعهم" المزعوم والموهوم يسمونها بالقضية المركزية، فكانت عبارة عن مشاعر جياشة في خوالج النفس العربية الرسمية وكانت بمثابة سيف يشهر في وجه المصالح الغربية، قبل أن تتحول إلى سلع يُساوَم بها حلفاء الاحتلال والداعمون له لقضاء مصالح شخصية، ووسيلة يُسوِّق بها المتاجرون أنفسهم، فبدل أن تكون سببًا في جلب الحقوق وصون السيادة والدماء وتجنيب المنطقة ويلات الدمار والحروب، يتم توظيف هذه "القضية المركزية" وتقديم التنازلات بشأنها عربونًا لقوى الاستكبار والاستعمار والإمبريالية، لجلب الدمار والخراب والمآسي لدول المنطقة وشعوبها، يترافق مع هذه النكبات نكبة تهجير الفلسطينيين من مخيماتهم في سوريا، وتزداد نكبتهم نكبة بتوريطهم في قتال من استضافهم وأحسن إليهم، في زمن تخلى عنهم الجميع، والمؤسف أن كثيرًا منهم بدل أن يستحضر مؤامرة نكبتهم الأولى وطردهم من أرضهم على يد الصهاينة وحلفائهم وعملائهم، وأن أعداء الأمس هم أعداء اليوم يلاحقونهم في مخيمات اللجوء في سوريا ولبنان، تناسوا وانخرطوا دون وعي وتفكر وتقدير أنهم جزء من مخطط استهداف سوريا وتدميرها، فكم هو قاسٍ أن يبدأوا رحلة شتات جديدة.

نأمل أن تمثل هذه الذكرى اليوم فرصة للفلسطينيين لإعادة التفكير وإجراء مراجعة شاملة، والانتباه إلى أنه لم يعد الوضع العربي ظهيرًا وسندًا لقضايا أمته، بل إنه وضع مهزوم ومشرذم، وتغلب عليه الطائفية والتكفير والتخوين.

Email