أحكام توجه رسالة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد مرافعات امتدت لأربع جلسات والوقوف على كافة الحيثيات، قال القضاء العماني كلمته أمس في القضية التي شغلت الرأي العام مؤخرًا والمعروفة بقضية حلوى الأطفال المغشوشة، حيث أدانت المحكمة الابتدائية بمسقط المتهمين فيها، موقعة عليهم أحكامًا تراوحت بين السجن لسنة وسنتين والغرامة والطرد المؤبد من البلاد، ومصادرة السلع المغشوشة وإغلاق المحال.


إن أولى الإشارات الجلية التي ينبغي التوقف عندها حول هذا الحكم هي أن القضاء العماني أثبت استقلاليته، وقد حرص على تحري العدالة من جميع جوانبها من خلال الإجراءات القانونية وإجراءات التقاضي الصحيحة والسليمة التي اتبعها، والحرص على سماع شهود الإثبات وشهود النفي وإعطاء المتهمين حق الدفاع عن أنفسهم وتوكيل محامين للترافع عنهم أمام القضاء، فهذه الاستقلالية تؤكد أن عُمان هي دولة مؤسسات بحق.

وأن القانون سيبقى هو الضمانة الحقيقية لحقوق الجميع دون استثناء، وأن الجميع سواء أمام القانون، وقد أكد حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ على أهمية استقلالية القضاء وتعزيز دوره في دولة المؤسسات، وتيسير إجراءات التقاضي وتقريبه للمتقاضين، وتعزيز سيادة القانون الذي هو أساس الحكم في الدولة، وضمان الحقوق والحريات، وتسريع دورة العمل بما يحقق العدالة الناجزة ويمكِّن الناس من بلوغ حقوقها على الوجه الأكمل، وذلك خلال ترؤس جلالته ـ أيده الله ـ اجتماع المجلس الأعلى للقضاء ببيت البركة الاثنين الماضي.


ما من شك أنه بالنظر إلى الأحكام الصادرة بحق المدانين والتي تفاوتت بين السجن والغرامة أقلها أربعمئة ريال عماني وأكثرها عشرة آلاف ريال عماني والإبعاد عن البلاد لا ترتقي إلى حجم الجريمة المرتكبة والتي كان عنصرا الشروع والقصد في الإيذاء موجودين، بل وممارسين، ولا ترتقي أيضًا إلى مستوى الآمال والطموحات التي كان يعلقها المجتمع على القضاء؛ باعتبار أن هذه القضية هي قضية المجتمع وتمسه بصورة مباشرة وهو المقصود بالاعتداء والإيذاء وعن سبق إصرار وتكرار وترصد، إلا أن القاضي يحكم بما لديه من قوانين، حيث كان معتمده في الحكم قانون الجزاء العماني وقانون حماية المستهلك.

ولذلك لا يمكن إلقاء اللوم على القضاء وتحميل الادعاء المسؤولية الذي طالب بإنزال أشد العقوبات على المدانين في مرافعاته، مع عدم التقليل من شأن الجميع، فالقضية بسيرها وفق درجات التقاضي وإجراءاته الصحيحة والقانونية تحسب لصالح القضاء العماني واستقلاليته المنشودة والتي هي في أجمل صورها انعكاس حضاري لبلادنا، غير أن ما يجب أن يصار إليه هو تحرك الجهات المعنية وخاصة مجلس عُمان نحو مطالبة المشرع باستصدار قوانين أشد صرامة ونفاذا وتتناسب وحجم الجرم المرتكب سواء أكان ذلك لحماية المستهلك أو في غيرها من القضايا.

فضعف القوانين دائمًا ما يشجع المجرم على تكرار جريمته، وربما يشجعه على اقتراف جرائم أخرى، لذا فإن الآمال والتطلعات تبقى معلقة في قادم الأيام على طبيعة التحرك الذي ينبغي أن يسير تجاهه مجلس عُمان وبقية الجهات المعنية نحو صياغة قوانين رادعة تجعل كل من تسول له نفسه يفكر عشرات المرات قبل الإقدام على جريمته، قوانين تعزز ثقة جلالة عاهل البلاد المفدى في المجلس الأعلى للقضاء ودوره في هذه المرحلة من عمر النهضة المباركة، والذي ينطلق من مكتسبات وإنجازات أربعة عقود من التنمية ليواكب التطلعات والرؤى المستقبلية لأبناء هذا البلد العزيز، ما يعزز في أنفسهم جوانب الثقة.

ويقوي أواصرهم وألفتهم ومحبتهم بالتزامهم بالقوانين الرادعة والصارمة، ويعزز قيم الانتماء لوطنهم، بما ينعكس بالخير والحرص على مكتسبات وطنهم. وكلما كانت هذه القوانين ذات قوة ونافذة، ونظرت إلى المتخاصمين الواقفين أمامها بمنظور المساواة ولا أحد فوقها مهما بلغ شأنه ومكانته، ومهما كان منصبه، اكتسبت هيبتها وزاد تقدير الناس لها. إن تلك الأحكام الصادرة وبغض النظر عن كونها أحكامًا مخففة، إلا أنها توجه رسالة لكل من تسول له نفسه المساس بأمن واستقرار وحياة الناس في هذا البلد.
 

Email