العفو عند المقدرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في لفتة أبوية حانية من أب رحيم وقائد حكيم، تفضل حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ فأصدر عفوه السامي عن المحكوم عليهم في قضايا الإعابة وجرائم تقنية المعلومات والتجمهر والإفراج عنهم اعتبارًا من اليوم الجمعة.


ما من شك أن هذه اللفتة الكريمة هي من شيم أهل الكرم والحلم الذين يترفعون عن الأخطاء؛ يحلمون حين يجب الحلم، ويعفون حين يجب العفو، وقد ضرب لنا التاريخ الإسلامي أروع الأمثلة في الحلم والعفو عند المقدرة. كما تؤكد هذه اللفتة أن من جاء من أجل الإنسان وبنائه وجعل منه هدفًا للتنمية، وقاد نهضة عظيمة حوَّلت عُمان إلى دولة عصرية يشار إليها بالبنان، لا ولن يحيد عن هذا المسار السليم وعن هذه المسيرة الخيرة، فقد عدَّ جلالة عاهل البلاد المفدى ـ أيده الله ـ الاهتمام بالإنسان العماني ركنًا أساسيًّا، بل قاعدة عريضة لنهضة الوطن وتطوره ونمائه، ومن أبرز مظاهر هذا الاهتمام هو حرص جلالته الشديد على أن يبقى المواطن شريكًا حقيقيًّا للحكومة في عملية التنمية والعمل على تطوير الوطن وتقدمه والرقي به، ولأجل أن يؤدي المواطن دوره من منطلق ما تقتضيه هذه الشراكة أقيمت المؤسسات التي تتيح له فرصة القيام بدوره في خدمة وطنه وتطور مجتمع.

حيث كان إنشاء مجلس عُمان بمجلسيه الدولة والشورى علامة أخرى على الرغبة الأكيدة في المشاركة الجمعية الفعلية والتعاون البنَّاء لما فيه خير هذا الوطن وصالح المواطن، فإنشاء مجلس عُمان جاء في مرحلة تتطلب تضافر الجهود من قبل جميع أبناء هذا الوطن دون استثناء، فمثلما هم بحاجة إلى وطنهم يحتضنهم، كذلك وطنهم بحاجة ماسة إلى جهودهم وطاقاتهم التي يجب أن تكون في أطرها الصحيحة والسليمة والتي يجب أن توظف توظيفًا صحيحًا، ولكي تكون هذه الجهود والمفاهيم والأفكار لدى شباب الوطن وسواعده الفتية ناضجة وذات فائدة، أتاحت القيادة الحكيمة حرية الرأي والتعبير، وتعدد الآراء والأفكار، ورفضت مصادرة الفكر، واعتبرت تعددها دليلًا على قوة المجتمع وعلى قدرته على الاستفادة من هذه الآراء والأفكار بما يخدم تطلعاته إلى مستقبل أفضل وحياة أسعد وأجمل.


ولا ريب أن الحرية وتعدد الآراء والأفكار هي عملية التزام ووعي وإدراك للمسؤوليات وحجمها، ومطلوب من شباب الوطن المبادرة بآرائهم وأفكارهم ومقترحاتهم والمساهمة في تطوير جوانب العمل ورفع شأن الوطن وإعلائه، وما المؤسسات الرسمية كمجلس عُمان والمؤسسات الإعلامية والاجتماعية إلا من أجل هذه الأهداف النبيلة، فحرية التعبير هي نوع من أنواع الحرية التي تشمل حرية المعتقد وحرية الفكر وحرية الابتكار، إلا أن لها ضوابطها وقيودها، خاصة وأن ديننا الإسلامي الحنيف قد ميز بين الحرية والحرام، وبين النصيحة والفضيحة.


يجب أن نحسن الظن في الجميع، فالعفو السامي يحمل مضامين أبوية وحبًّا كبيرًا، حيث لم يكن الهدف من الحبس الاستهداف الشخصي، وإنما دائمًا للقانون وللقضاء كلمة لا بد أن يقولها حفاظًا على سلامة الجميع وضمانة للاستقرار، والمفرج عنهم قد تكون دفعتهم غيرتهم وحبهم لوطنهم إلى ما أقدموا عليه، إلا أنهم خانهم الأسلوب والطريقة في التعبير التي خرجت عن ضوابطها. ولا يوجد بلد مثالي خالٍ من الأخطاء، لكن المثالية هي أن تعمل على تدارك الأخطاء ومعالجتها بالحكمة، وهذا ما يعمل عليه جلالته ـ أعزه الله ـ وحكومته، وبالتالي يجب أن تظل الثقة ثابتة واليقين مستمرًّا، وحين تخلص النية، وتصفو السريرة، ويتعاظم الشعور بالانتماء والولاء والعرفان.

ويقوى التمسك بالقيم النابعة من الموروث الحضاري في هذا الوطن، وتمتزج المشاعر وتتلاحم الأواصر وتتلاقى القلوب وتتآلف, وتتشابك السواعد فإن من شأن ذلك أن يعطي حالة استثنائية تمكِّن بلادنا من إكمال خطط النهوض والبناء، هذا التلاحم والتعاون والتكاتف بين الشعب والقيادة نبت منذ اللحظات الأولى لولادة النهضة المباركة ومكَّن من وضع اللبنات الراسخة لإقامة الدولة العصرية, والبناء عليها بحرص وإتقان, فكانت النتائج مستلفتة للنظر للقاصي والداني، وهذا ما ينبغي أن نعمل من أجله جميعًا.

 

Email