إلى متى سيستمر غياب الوعي؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

التوتر الشديد الذي يخيم على العلاقة بين الحكومة العراقية وبين إقليم كردستان العراق على خلفية تشكيل قوة عسكرية من الحكومة المركزية لتتولى الأمن في مناطق متنازع عليها، ثم دخول الأوضاع في كركوك إلى دائرة الخطر بعد التفجيرات الدامية التي شهدتها المدينة أمس الأول، لا يؤكد إحدى نتائج سلسلة طويلة خلفها الاحتلال الأنجلو ـ أميركي في العراق، وأنه أحد إفرازات التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي فحسب، بل يحمل دلالات كاشفة على أن مخطط التفتيت والتقسيم عبر إذكاء النزعات الانفصالية بأثوابها العرقية والمذهبية يقطع أشواطًا كبيرة، ليس ذلك حصرًا على العراق وحده، ولكن على امتداد الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، والذي يبدو أن الأقدار كتبت على جبينه أن يظل مرمى تقليديًّا لنفوذ وأطماع الغرب، وأن يبقى هدفًا للمؤامرات المحبوكة.

اليوم دول المنطقة باتت تدفع باهظًا ثمن ما يسمى "الشرق الأوسط الجديد"، ويأتي في مقدمتها العراق الذي في لحظة من الزمن غيب فيه الوعي وغسلت الأدمغة بأسطوانات مشروخة محملة بأغانٍ هي أقرب دعوة للرقص على جثث الأبرياء لا للتسلية؛ أغانٍ ماجنة صاخبة على الطريقة الغربية اسمها "نشر الديمقراطية، حماية حقوق الإنسان، حماية المدنيين، حرية التعبير"، غير أن المفارقة هي أن هذه الأسطوانات تكفل بإلقائها على الشعب العراقي الدبابات والقاذفات الأميركية، ليسوى بالأرض ـ وعن قصد ـ كل ما يمت بصلة لعوامل الجغرافيا والتاريخ والجيوسياسي، لينتج نموذج مرسوم ومخطط له بعناية في دوائر الاستخبارات الأميركية والبنتاجون لما نراه اليوم من مسلسل سلخ وتفكيك دول المنطقة إلى دويلات وكيانات وجيوب سياسية متطاحنة، تستعصي على مفهوم الدولة المركزية القوية المتماسكة، وتتحدى قواعد وثوابت الجيوش الوطنية لتفرض بميليشياتها وكتائبها المسلحة واقعًا جديدًا على الأرض، وتشيع أجواء الفوضى بمفخخات وناسفات تنظيم القاعدة ذلك الصنيعة الأميركية الصرفة.

مفهوم أن ذلك النموذج المشوه يصب في صالح إذابة الصراع العربي ـ الصهيوني وتأميم فضلاته لصالح كيان الاحتلال الصهيوني، لكن غير المفهوم والمحير هما استمرار غياب الوعي لدى قسم من العرب رغم افتضاح أكاذيب "نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان وحماية المدنيين وحرية التعبير"، وسيطرة التغابي لدى قسم آخر أمام تسرطن هذا المشروع ووصوله خلال العامين الماضيين إلى مدى بعيد في الوصول لمآربه، فبعد العراق الذي لا يزال يعيش توابع زلزال المؤامرة الأنجلو ـ أميركية، كان السودان الذي تفتت إلى سودانين وجيشين، ومرشح بامتياز إلى مزيد من التقسيم والتشرذم والتحلل، واليوم تجري محاولات على قدم وساق لتفتيت سوريا وبث أجواء الفوضى فيها وضعضة جيشها الوطني بأدوات تآمرية، حيث حصد يوم أمس وحده أكثر من خمسين قتيلًا ومئة وعشرين جريحًا في عمليتين إرهابيتين في مدينة جرمانا قرب دمشق، ففوضى السلاح ودعم العصابات الإرهابية بالمال والسلاح على وقع الأغاني الغربية الصاخبة سالفة الذكر، هو الأسلوب الفعال الذي تم تصنيعه ويجري تقويته في سوريا لشل مفاصلها ومكامن قوتها. لتكتمل صورة مسلسل الفوضى مع إرهاب كيان الاحتلال الصهيوني على النحو الذي رأيناه في قطاع غزة، وإصرار المحتل على استمرار الانقسام الفلسطيني لتكريس الانفصال بين غزة والضفة بما يمنع من إقامة دولة فلسطينية؛ فاتصالهما يتنافى مع أهداف ما يسمى الشرق الأوسط الكبير الرامية إلى التفتيت والتقسيم.

لا عجب إذًا، ووسط تلك التطورات المتلاحقة في وطننا العربي المكلوم، أن نرى اليوم العراق وقد أصبح أكثر من عراق أو أن يستدعي التدخل الأميركي من جديد لفرض هذا التقسيم، وأن تصبح سوريا أكثر من سوريا، وليبيا أكثر من ليبيا، والسودان سودانات، ما دامت حالة غياب الوعي مستمرة، بل والسعي إلى إيجاد البيئات المناسبة للتدخل الأجنبي ليصب ولغه أين ومتى وكيف أراد الأجنبي المتدخل.

 

Email