تاريخ حضاري يحكي عن ذاته

ت + ت - الحجم الطبيعي

لكل مجتمع ثقافته وخصوصيته ومنظومة القيم التي تميزه عن غيره، وثقافتنا باعتبارها جزءًا من العالمين العربي والإسلامي، تنهض على أساس من التسامح والتراحم والتواصل مع الآخر، وتبادل المصالح معه ومعاضدته في أعمال تعود بالخير للبشرية كلها. وتنطلق رؤية حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ من تلك المنظومة السمحة لدعم وتنمية المعرفة الإنسانية، وإقامة جسور التواصل بين ثقافتنا والثقافات الأخرى، ولأجل التقريب بين الثقافات وتعميق أدوات الحوار، وتحقيق هدف التلاقي الحضاري بيننا وبين العالم الذي نعيش فيه.

وقد ضرب لنا التاريخ العماني أروع الأمثلة في قيم التسامح والتواصل الحضاري مع الآخرين، فمآثر العمانيين القدماء والتأثير الحضاري والثقافي العماني لا تزال شواهده تحكي ما سطره العمانيون، حيث يذكر التاريخ الكثير من أسماء الأساطيل التي صالت وجالت في البحار والمحيطات، والدور الذي لعبته البحرية العمانية في ربط جسور المودة والتقارب مع كافة الشعوب شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبا، فقد جابت السفن العمانية البحار من الصين إلى الولايات المتحدة مرورًا بمعظم الموانئ المعروفة في مختلف القارات، ومنذ القرن الثامن الميلادي عرف العمانيون خطوط الملاحة البحرية، وساعدوا في الكشوفات الجغرافية الشهيرة في العصور الوسطى، وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر سجلت الرحلات البحرية العمانية سطورًا من نور في نشر المحبة والسلام مع شعوب عديدة, أشهرها الرحلات البحرية التي قام بها البحارة العمانيون إلى كانكون في الصين وموانئ أخرى على امتداد الطريق البحري من عُمان إلى الصين، مرورًا بالهند وسنغافورة ومعظم موانئ جنوب شرق آسيا هذا في اتجاه الشرق، أما في اتجاه الغرب فأشهر الرحلات تلك الرحلة التي قام بها أحمد بن نعمان الكعبي إلى الولايات المتحدة عام 1840 مبعوثًا من سلطان عُمان آنذاك، ومقيمًا علاقات دبلوماسية مبكرة جدًّا مع أميركا عقب إعلان قيام الولايات المتحدة مباشرة.

ويأتي الاحتفال بالافتتاح الرسمي لشارع "مسقط" بمنطقة "كامبونج" بجمهورية سنغافورة أمس الذي يعود تاريخه إلى أكثر من مئة عام، وكذلك انطلاق فعاليات معرض التسامح الديني في سلطنة عمان بمدينة آخن بجمهورية ألمانيا الاتحادية في محطته الثالثة والعشرين والذي تنظمه وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بهدف التعريف بالإسلام ونشر ثقافة التسامح والتعايش السلمي بين الأمم والشعوب، ليؤكدا حرص السلطنة على تواصلها الثقافي مع الآخرين، وإبراز ما يتمتع به المجتمع العماني من قيم نبيلة ومبادئ عظيمة في التسامح والتعايش، واحتضان الآخر وتقبله، بغض النظر عن معتقده وعرقه وجنسه ولغته.

وما من شك في أن هذين الاحتفالين لا يمتنان العلاقات الطيبة والكبيرة التي تربط السلطنة بجمهوريتي سنغافورة وألمانيا فحسب، بل سيلقيان المزيد من الأضواء على تاريخ عُمان الحضاري الذي أشع بنوره على العالم، ويؤكدان الألق الذي يحتفظ به ويميزه، وأنه تاريخ متجدد وحيوي ويرجع الفضل في ذلك إلى ما أسبله الله على أهل عُمان من مودة ورحمة وتواد وتلاحم وتعاضد، وفكر يقبل الآخر مهما كان متوافقًا أو مخالفًا، وإلى وعي وحصافة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ وإيمانه بأهمية إقامة علاقات قوية ومتينة مع مختلف بلدان وشعوب العالم المعاصر، ما سمح كل ذلك بإشاعة أجواء الاستقرار والأمن والطمأنينة. إن الذي لن يختلف عليه أحد هو أن هذين الاحتفالين سيؤكدان الواجهة الحضارية والتاريخية والثقافية وذات المنظومة القيمية، في ظل عالم متعدد الثقافات والحضارات، الأمر الذي سينعكس إيجابًا على السلطنة من الناحية الاقتصادية من حيث نشاط الاستثمار والسياحة.


 

Email