«أوان» و«الوقت» وغياب التنمية الثقافية

«أوان» و«الوقت» وغياب التنمية الثقافية

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا أعرف مدى مصادفة التوقيت من عدمه، لكن أن تخرج من سوق الصحافة الخليجية، وفي عيد الصحافة، صحيفتان رغم عمرهما القصير، ورغم ما قد يوجه لهما من قبل البعض من نقد أو ملاحظات، إلا أنهما، أي جريدتي «الوقت» البحرينية و«أوان» الكويتية، قد مثلتا بخروجهما للنور نقلة نوعية في سوق الصحافة الخليجية، بل إنهما قد تعتبران من أهم الصحف الحديثة التي خرجت للنور خلال السنوات القليلة الماضية.

ورغم أن الجريدتين قد خرجتا في فترة تعد من أكثر لحظات المنطقة العربية استقطابا من الناحية المذهبية والسياسية، إلا أنهما استطاعتا أن تحافظا على توازنهما ومهنيتهما في بحر بدا جارفاً، بل ومشوها لعقل الإنسان العربي. فلم تنجرفا كما انجرف الكثير من الصحف القومية والقطرية العربية، نحو الشحن والتطبيل. فالمهنية والحرفية في العمل الصحفي، قد ميزيتا عمل طاقمهما التحريري والإداري، وحافظتا على سلامة موقفهما، ولربما ساهمت المهنية والعقلانية العالية اللتين ميزتا عملهما، في تصويب بعض من المواقف على الصعيد الداخلي، وفي إضافة فهم واقعي للمشكلات القائمة.

ورغم أن جريدة الوقت البحرينية كانت محاولة من بعض الوجوه الاقتصادية الجديدة للدخول في عالم الصحافة، إلا أن دخولهم هذا لم يحدد للجريدة خطوطا للعمل وآخر لحود التعبير والكتابة في الجريدة، حتى بات بعض أعمدتها منبرا لطرح مشكلات المواطن وميدانا للتعبير عن هواجسه وتأملاته.

وعلى الرغم من أن صدور جريدة أوان الكويتية قد قيل ما قيل فيه من انتساب لوجوه سياسية معينة داخل مؤسسة الحكم والدولة الكويتية، إلا أنها، أي الجريدة، قد أثبتت خلال السنتين ونصف الماضيتين، قدرة غير عادية في إثبات حضورها المهني والفكري والسياسي في المجتمع الكويتي، حتى باتت تمثل، إحدى أهم الصحف الكويتية من حيث الثقل الثقافي والفكري لكتابها المحليين والعرب.

وقد مثلت الجريدتان وبحق منبرا مهما من منابر التعبير عن التيار الليبرالي المعتدل في الكويت والبحرين. فهما في انفتاحهما على المعتدل من التيارات الفكرية والسياسية الأخرى، كما في معالجاتهما للقضايا والأحداث الداخلية والخارجية، قد مثلتا قدرا مهما من العقلانية الفكرية والمهنية، وبعدا واضحا عن حركة الاستقطابات التي باتت تميز الساحة السياسية في الكثير من المواقع العربية، أو تأثرا بانتماءات العاملين فيها: السياسية والمذهبية. بل إنهما قد كانتا منبرا للتعبير عن كل صوت حر وعاقل.

وقد يطرح خروج هاتين الصحيفتين في عيد الصحافة سؤالا كبيرا ومهما، عن غياب الدولة عن مشاريع التنمية الثقافية بشكلها المباشر وغير المنظور. بل يطرح تساؤلا مهما عن طبيعة النظرة للمختلف، وليس المعارض من المواقف والآراء، وضرورة المحافظة على منابره التعبيرية، ليس فحسب لقياس الحالة السياسية القائمة، وإنما لجعل التعبير بالكلمة العاقلة وسيلة للتخاطب مع من نختلف معه ومع ما نختلف حوله.

وليس سراً القول إنه في الوقت الذي قد تنفق بعض دول المنطقة عشرات الملايين من الدولارات، على مشاريع اقتصادية خاسرة من الناحية الفعلية، أو أن ينفق أقل من ذلك أو أكثر على مهرجانات احتفالية ذات عائد وقتي من الناحية الاجتماعية والثقافية، تمتنع هذه الدول عن نجدة صحف وطنية قد مثلت بفعل رصانتها ومهنيتها قناة مهمة من قنوات التنمية الثقافية. هذه التنمية التي لا يمكن أن نرى نتاجاتها سريعا، كما لا يمكن أن نرى نتاجاتها من خلال أرصدة بنكية أو حتى أرقام اقتصادية، وإنما نرى أثرها البعيد في الإنسان؛ في أدائه المعرفي ودوره الاقتصادي.

إن أحد مداخل الاستثمار في ما نسميه رأس المال الاجتماعي، لا يأتي إلا من خلال مجموعة من المشاريع الثقافية، التي قد يكون أحدها هو التأسيس لصحافة حرة عاقلة ومهنية. وفي الوقت الذي تختفي فيه عن السوق هاتان الصحيفتان، يستمر وجود، وبفعل المال السياسي، صحف عربية أخرى أقل ما يقال عنها أنها صحف الطوائف والقبائل والفتن.

وفي الوقت الذي قد يكون اختفاء هاتين الصحيفتين بفعل ضائقتهما المالية يمثل خسارة للجمهور الواسع من قرائهما، فإن العوض يبقى مع ذلك في القائم من الصحف الخليجية التي ما زالت تمارس دورها التنويري والمهني، في سوق بات ينافسها فيه الكثير من الوسائط المعلوماتية الجديدة. إذ تبقى مع ذلك الكلمة المكتوبة ذات دور مهم في بناء الإنسان العربي، وهذا الدور يجب أن لا يترك لمن لا يرى الوطن إلا من خلال تضامنيته التقليدية الضيقة، أو لا يرى لرأيه نقيضا تقوم عليه فكرة جدية.

إن التنمية كما نفهما، لا يمكن أن تكون فحسب في شقها الاقتصادي، وإن استواء وتصويب إخفاقات المسار الاقتصادي، لا يتم إلا بمسارات تنموية متوازية، تأخذ في إطارها المسار الثقافي والمسار الاجتماعي والسياسي. فكل إخفاقات البلاد العربية إن هي إلا نتاج هذه النزعة الاقتصادية الضيقة، التي ترى التنمية في إطارها الاقتصادي، أو أنها ترى المسار لاقتصادي بفعل رياديته كفيلا بتحريك المسارات الأخرى.

وهو أمر يخالفه الواقع، حيث إن كبوات أمم كثيرة في الشرق والغرب، لم تكن إلا نتاجا لدرجة أقل من الاهتمام بما نسميه رأس المال الاجتماعي، الذي لا يتشكل في نموذجه المتقدم في الكثير من المجتمعات التي نعرفها في الغرب والشرق، إلا من خلال الاهتمام بجوانب أخرى اجتماعية وسياسية وثقافية، لا تحققها التنمية الاقتصادية لوحدها.

إنه إدراك لم يتشكل بعد في وعينا، بل إنه لم يتشكل بعد عند بعض من يصنع القرار على مستوى جهاز الدولة التنفيذي، ولا على مستوى السلطات التشريعية وجماعات المجتمع السياسي.

كاتب بحريني

drbaqer@gmail.com

Email