مستقبل حقوق الإنسان في.. أميركا

مستقبل حقوق الإنسان في.. أميركا

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجدل الدائر في أميركا اليوم، بشأن الشاب النيجيري الذي حاول تفجير طائرة دترويت، لا يجسد فقط طبيعة الوضع السياسي الأميركي، وإنما يكشف أيضا عن الكثير من القيم الخطيرة التي صار يعتنقها اليمين الأميركي بأغلب فصائله. فمنذ أن قررت إدارة أوباما إحالة عمر عبد المطلب إلى المحاكم الجنائية الفيدرالية ومنحته الحقوق المكفولة له بموجب ذلك، قامت الدنيا ولم تقعد، وراح اليمين الأميركي يتهم إدارة أوباما بأنها لا تدرك خطورة ما تتعرض له البلاد من أخطار، وأنها بذلك تعرض الأمن القومي الأميركي للخطر.

والقصة باختصار أن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، كان قد تحفظ على الشاب النيجيري فور هبوط الطائرة بسلام، وقام باستجوابه لمدة خمسين دقيقة، تم بعدها علاجه من الحروق التي أصابته وهو يستعد لتفجير الطائرة. غير أن المحققين قاموا قبل استئناف التحقيقات، بإخطار الشاب بكافة حقوقه التي يكفلها القانون الأميركي لمن تتم محاكمتهم أمام المحاكم الجنائية الفيدرالية، مثل حقه في أن يلتزم الصمت لئلا يسيء لموقفه القانوني، وحقه في تعيين محام للدفاع عنه.

هنا انطلقت حملة شنها الجمهوريون ضد إدارة أوباما، اعتبرت أن عمر عبد المطلب لا يستحق تلك الحقوق التي منحتها له إدارة أوباما، التي كان يتحتم عليها أن تعامله «كمقاتل عدو« ومن ثم تحيله للمحاكم العسكرية، بعد أن تستجوبه للحصول منه على أكبر قدر من المعلومات، دون أن تمنحه أثناء التحقيق أية حقوق على الإطلاق.

ومن المهم هنا الإشارة إلى أن «المقاتل العدو» تعبير كانت إدارة بوش قد اخترعته بعد 11 سبتمبر، وكان يعني عندها أن الرئيس الأميركي يحق له أن يصدر قرارا بالقبض على أي شخص في أي مكان في العالم، ثم التحفظ عليه إلى أجل غير مسمى دون أية حقوق، بما في ذلك الحق في محام يدافع عنه أو الحق في الإحالة للقضاء، بل وحتى الحق في معرفة الاتهامات الموجهة إليه.

وكانت إدارة بوش قد اخترعت ذلك التعبير لتزعم أنه يحق لها أن تفعل كل ما تقدم، بحجة أن «المقاتل العدو» لا تنطبق عليه الحقوق المكفولة وفق اتفاقات جنيف، لأنه ينتمي لمنظمة إرهابية هي «القاعدة»، لا لجيش نظامي لدولة محاربة. وهو في الحقيقة زعم لا أساس له من الصحة، لأن اتفاقات جنيف تغطي هؤلاء أيضا.

اللافت للانتباه في الجدل الدائر في أميركا الآن، هو أن المحافظين الأميركيين لا يزالون يرددون مزاعم إدارة بوش، وكأن المحكمة العليا الأميركية لم تبت في الأمر ثلاث مرات، لا مرة واحدة! ففي قرارات ثلاثة متتالية، ما بين 2004 و2006، أصدرت المحكمة العليا الأميركية قرارات واضحة في رفضها لمزاعم إدارة بوش. بل إن القرار الذي صدر في 2006 قال صراحة إن من تطلق عليهم إدارة بوش «المقاتلين الأعداء«، تنطبق عليهم اتفاقات جنيف، بل ويتمتعون أيضا بالحماية التي يكفلها الدستور الأميركي نفسه.

أكثر من ذلك، فإن الاتهامات التي يكيلها الجمهوريون لإدارة أوباما، تجعل المرء يتصور أن قرار أوباما بمحاكمة عبد المطلب أمام المحاكم الفيدرالية، يمثل تحولا راديكاليا عن السياسة التي اتبعها سلفه، وهو أمر عار من الصحة جملة وتفصيلا.

فعبد المطلب تم القبض عليه على الأرض الأميركية، وفي عهد بوش، فإن من تم القبض عليهم على الأرض الأميركية، أحيلوا للمحاكم الفيدرالية لا العسكرية، باستثناء حالتين فقط اضطرت الإدارة اضطرارا، بعد مرحلة طويلة من النزاعات القانونية بشأن كل منهما، لأن تحيل المتهمين للقضاء الفيدرالى، بعد أن كانت أحالتهم للمحاكم العسكرية.

بعبارة أخرى، لا تصمد اتهامات الجمهوريين لأوباما أمام أي تحليل موضوعي يقوم على دراسة الوقائع والسوابق، الأمر الذي يرجح أنها اتهامات هدفها استثمار الموقف لتحقيق مكاسب حزبية وسياسية ضيقة، لا علاقة لها بحماية الأمن القومي.

غير أن الأخطر من هذا كله، هو نوعية القيم التي يفصح عنها المحافظون الأميركيون في ذلك الجدل. فحين تستمع لما يقولون، تجد نفسك أمام خطاب يقوم في جوهره على تفعيل شديد الخطورة لفكرة جوهرية في الثقافة السياسية الأميركية، مؤداها أن أميركا بلد استثنائي. والاستثنائية عندهم معناها ألا تخضع بلادهم للقانون الدولي مثل سائر الدول، وأن بإمكانها أن تتخذ ما تشاء من الإجراءات ضد من تشاء، ولا يحق لأحد حسابها.

الأخطر من ذلك، أنك تلمح في خطاب المحافظين عنصرية لا تخطئها العين. فتيموثى ماكفيي، الأميركي الأبيض الذي فجر مبنى أوكلاهوما منذ سنوات في حادث بشع وقع ضحيته الكثير من الأبرياء، لم يكن أقل إجراما ولا إرهابا ممن يحاول تفجير طائرة. لكن أحدا من المحافظين الأميركيين لم يطلب محاكمة ماكفيي أمام المحاكم العسكرية، ولا حرمانه من الحقوق التي يكفلها له القانون أثناء التحقيق والمحاكمة.

بعبارة أخرى، يبدو أن المحافظين الأميركيين يؤمنون، ليس فقط بأن أميركا استثنائية، وانما بأن الأميركيين جنس فوق كل البشر،لا بد أن يتمتعوا بحقوق من الطبيعي أن يحرم منها غيرهم، حتى ولو ارتكبوا نفس الجرم. والحقيقة أن هذا المعنى تحديدا مخالف للدستور الأميركي ذاته. فعظمة ذلك الدستور في رأيي، أنه حين كفل حقوقا، فإنه استخدم تعبير «شخص»، ولم يستخدم تعبير «أميركي» ولا حتى لفظ «مواطن».

المشكلة في تلك الأفكار الأيديولوجية، هي أنها كانت المسؤولة عن الأداء الكارثي لإدارة بوش في مجال حقوق الإنسان. السؤال المهم إذن يتعلق بالمستقبل؛ فماذا لو عاد الجمهوريون لمقاعد الأغلبية في نوفمبر القادم؟ وماذا لو حدثت، لا قدر الله، جريمة إرهابية كبرى في أميركا في عهد أوباما؟ هل ينجح المحافظون عندئذ في العودة بالعالم للسنوات الكابوسية التي شهدت تطبيق تلك الأفكار على أرض الواقع؟!

Email