أي نسق اجتماعي في إسرائيل؟

أظهر استطلاع للرأي، أجرته وزارة الاستيعاب والهجرة الإسرائيلية نهاية 2009، أن 50% من الإسرائيليين يعتقدون أن مهاجري العقدين الأخيرين قد جلبوا الضرر لإسرائيل. وعن نوعية هذا الضرر، أجاب 62% من المستطلعين أنه يتمثل في تفشي العنف وجرائم السرقة والقتل، بشكل لم تعرفه الدولة في عقودها الأربعة الأولى من ناحية، واندفاع الشرائح الشبابية نحو الإفراط في شرب الكحول وتعاطي المخدرات وإدمانها من ناحية أخرى.

في السياق ذاته، أفصح البعض عن غضبهم من مزاحمة «المستوطنين الجدد» للمستوطنين القدامى في سوق العمل، بحيث «سيطر الأطباء والمهندسون ورجال الدين الوافدون من وسط آسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق، على أماكن العمل والسكن على حساب «المواطنين».

أما غير العاملين وغير المؤهلين من هؤلاء المستوطنين الجدد، فإنهم «أصبحوا عالة على المجتمع، بالنظر إلى منحهم الأفضلية في تلقي المساعدات، بعد الجنود الذين أنهوا خدمتهم والأزواج الشباب».

المستوطنون القدامى يصفون أنفسهم ب«المواطنين»، فيما يعتبرون المستوطنين الجدد مجرد مهاجرين نغصوا عليهم حياتهم وشاركوهم أرزاقهم، واستجلبوا معهم أمراضاً اجتماعية خطيرة.

والأهم أن 60% من قطاع الشباب المنحدرين من أصلاب مؤسسي الدولة «لا يرون في إسرائيل شيئاً يستحق الهجرة إليها»!

ومن جانبهم، يتململ المهاجرون الجدد من سوء ظن القدامى فيهم، ومن رميهم بالتواكل والانتهازية، وإلقاء الظواهر الاجتماعية السلبية على عاتقهم. ويذهب الإثيوبيون (الفلاشا) منهم إلى الشكوى من ممارسة التمييز العنصري ضدهم، على خلفية بشرتهم السوداء وملامحهم الإفريقية.

بهذا التنافر والتباغض والتحاسد والتزاحم والتمايز بين يهود ويهود، المعطوف على الانقسام الطولي والأفقي بين اليهود والعرب الفلسطينيين (السكان الأصليين)، تبدو الدولة الاستيطانية الصهيونية كمستودع كبير يحوي كل أسباب الشقاق والانشقاق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

والمؤكد أن تقاطر موجات المهاجرين من ذوي الأصول الجغرافية والثقافية اللغوية والمراتب الاجتماعية والمستويات الاقتصادية والميول الفكرية السياسية المتباينة، من شأنه تغذية هذا المستودع بمزيد من هذه الأسباب.

ومع ذلك، فإن «93% من سكان إسرائيل يؤكدون أن الهجرة حيوية بالنسبة لها»! تشي هذه الحقائق بحجم التناقض الذي يعتمل في العقل الجمعي، إن كان ثمة مثل هذا العقل، للإسرائيليين، بين الترحيب بالظاهرة (الهجرة) والنفور من نتائجها.

على أن الأكثر إثارة للدهشة في هذا المقام، هو محاولة حراس فكرة الكيان الاستيطاني الصهيوني إسقاط عقده ونقائصه على المجتمع العربي الفلسطيني الأصيل. فهم يزعمون أن الفلسطينيين لم يكونوا بالمعني التاريخي مجتمعاً متسقاً يستحق الانضواء في دولة.

إلى هذا الدرك المتدني من الفهم ينحدر التفسير الصهيوني لقوام المجتمع الفلسطيني. ولا شك أن حالة كهذه من التسطيح والجهل ناشئة عن المنظور التجزيئي للمنطقة العربية، الذي تلا التدشين الاستعماري للخريطة السياسية العربية غداة الحرب العالمية الأولى.

غير أنه حتى في إطار هذا المنظور، يصح أن نسأل أصحابه من غلمان المستشرقين والصهاينة عما تستبطنه مسميات عائلية فلسطينية أخرى، مثل العكاوي والمقدسي واللداوي واليافاوي والنابلسي والقلقيلي والكرمي والغزاوي والخليلي والرملاوي... إلخ.

التي تنسب حامليها لعين الأماكن والمدن في عقر فلسطين؟!

وتبلغ المقاربة الصهيونية مدارات الهوس والتلفيق الفج، عندما تدعي أن التاريخ الاجتماعي السياسي لدولة اليهود في فلسطين يعود إلى 3500 عام، وقت قيام «دولتي يهودا والسامرة».

وتتجلى سخافة هذه المعالجة وانتقائيتها الفاضحة، من سكوتها عن إجابة أسئلة جوهرية من قبيل: من أين وفد الحشو السكاني «اليهودي» لهاتين الدولتين؟ وكيف يستقيم الادعاء بأصالة هذا الحشو مع الرواية اليهودية (التوراتية) ذاتها بأن فلسطين كانت عامرة بأهلها اليبوسيين والكنعانيين العرب.

الأكثر تطوراً من العابرين إليها عنوة في تلك الأيام الخالية؟ وإذا كانت الدولتان إياهما قامتا فرضاً في يهودا والسامرة (الضفة الفلسطينية حالياً)، فكيف يسوغ صهاينة اليوم احتلالهم للساحل الفلسطيني من رأس الناقورة إلى رفح؟ قبل ذلك وبعده.

من قال إن «يهودا والسامرة» كانتا دولتين بمنطق المرحلة التاريخية التي عرفتهما (لأقل من مئة عام)، فيما كانتا مجرد حارتين صغيرتين بين ممالك ودول كبرى، تمكنت إحداها من نقل سكانهما دفعة واحدة إلى أرض بابل؟

إن إسرائيل تمثل تجربة استعمارية استيطانية، استقبلت أناساً من أكثر من مئة دولة، بمئة ثقافة ولسان ونمط تفكير ومعيشة ورؤية للحاضر والمستقبل.

وعلى الرغم من ادعاء نخبتها الحاكمة أنها دولة اليهود فقط، فإن كثيراً من مستوطنيها (غير السكان العرب الفلسطينيين الأصليين) مشكوك في يهوديتهم، كما أنها لا تضم أكثر من ثلث يهود العالم الحاليين، ولا تعني لبعض هؤلاء أكثر من محطة مرور إلى عوالم أخرى..

ويحرص أكثر من مليون مهاجر يهودي قديم وجديد فيها على اقتناء جوازات سفر وجنسيات بلادهم الأم، ويرى قطاع واسع من هؤلاء أنها تخلو مما يستحق البقاء فيها.أين هذا التقييم مما قاله شاعر فلسطين الأكبر محمود درويش، ويردده الفلسطينيون، بأن على أرض فلسطين ما يستحق الحياة؟!

كاتب وأكاديمي فلسطيني

mohamedalazzar@hotmail.com

الأكثر مشاركة