العالم يجب أن يكون متعدد الأقطاب

العالم يجب أن يكون متعدد الأقطاب

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعيش المجتمع الدولي حالة من الصراع السياسي، الذي تتنامى حدته في الفترة الأخيرة بين اتجاهين متضادين. الأول يعمل على تأسيس نظام عالمي على أساس أحادي القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة، أما الاتجاه الثاني فيسعى لبناء نظام متعدد الأقطاب على أساس مبدأ التعايش السلمي والحوار بين الحضارات والقوميات.

ولعل السنوات الأولى في القرن الحادي والعشرين قد كشفت عن أن المشروع الأميركي في بناء العالم أحادى القطب قد فشل في إحلال الاستقرار، وفجر العديد من البؤر الساخنة، وفتح الأبواب على مصراعيها لتوسع نشاط قوى الإرهاب.

والأخطر من هذا أن مشروع أحادية القطب الذي يعتمد أسلوب استخدام القوة العسكرية في حفظ الأمن والاستقرار، كما شهدنا على غرار العملية الانجلواميركية في العراق، وقبلها في أفغانستان، لم يفشل فقط في تحقيق هذا الهدف، وإنما أسفر عن تدمير مبادئ السيادة الوطنية وعدم التدخل في شؤون الدول ذات السيادة.

وبات واضحا أن هذا المشروع يحمل في طياته بذور انهيار المجتمع الدولي، وكان الدبلوماسي المعروف يفجينى بريماكوف قد حذر من تمسك الأميركيين بمشروع أحادية القطب، مشيرا إلى أن نهوض العالم الجديد على أنقاض مرحلة ثنائية القطب التي ساد فيها الصراع بين نظامين مختلفين، يتطلب حالة من التوافق السياسي واحترام مصالح الدول وسيادتها.

وقد أعلنت روسيا في مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية في فبراير من العام الماضي عن فشل النظام الذي يعتمد على مركز وحيد في صنع القرارات استنادا لتطورات الوضع في العراق والشرق الأوسط، وبات واضحا أن موسكو تدعو إلى أن يتم صنع القرار الدولي بالجهود الجماعية.

العديد من المحللين الروس لا يختلفون مع المنطق الأميركي انطلاقا من قناعتهم بأن النظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بات يقوم على أسس واحدة وهى أنظمة السوق ومبادئ الاقتصاد الحر ، ما يجعل العالم وحدة اقتصادية منسجمة، وتتحدد فيها مراكز النفوذ وفق القدرات الاقتصادية والمنافسة الحرة.

إلا أن ما يحدث هو أن الدولة الأميركية تتدخل في حركة السوق لحساب الشركات الأميركية في محاولة لتوسيع نفوذها وحل أزماتها الاقتصادية.

ويمكن القول إن برنامج الجمهوريين الذي ينفذه بوش منذ بداية القرن استند بالدرجة الأولى إلى حماية مصالح ونفوذ الاحتكارات الأميركية، التي بدأت تتراجع في الأسواق العالمية، وذلك من خلال سعي الإدارة الأميركية للسيطرة على منابع الطاقة، والتحكم في بقية المؤسسات والاحتكارات.

وكان برنامج الجمهوريين حلا مثاليا، لأنه يضرب عصفورين بحجر واحد، فهو يمكن الولايات المتحدة من فرض سيطرتها على منابع الطاقة، وينعش الصناعات العسكرية، ويخرج الدورة الاقتصادية من حالة الكساد.

إلا أن هذه السياسة لها مخاطر كبيرة، أبسطها أن انتعاش الدورة الاقتصادية يتم بشكل زائف لا يعبر عن انتعاش حقيقي في الأسواق. والجانب الأكثر خطورة انه يصطدم ببقية أطراف المجتمع الدولي من خلال تفجير البؤر الساخنة ومساعيه للسيطرة على منابع الطاقة.

وكان من المتوقع أن تسبب هذه السياسة تحديا لروسيا التي تحرص كأي دولة أخرى على مصالحها الوطنية وسيادتها وسلامة أراضيها واستقرارها السياسي.

لم تعد روسيا كما كانت عليه في مرحلة التسعينات، وتجاوزت أزمات التفكك، وتحولت إلى لاعب أساسي، بل وتحتل مكانة جيوسياسية وجيواستراتيجية هامة، وبالرغم من أن القيادة الروسية الجديدة خلال تسعينات القرن العشرين تبنت توجهات استراتيجية للاندماج في نصف الكرة الأرضية الغربي.

ولكن لم يحسم هذا التوجه صراعات مرحلة ثنائية القطب، ولم ينه الحرب الباردة، بل أدى لنتائج عكسية. ولم يشأ الغرب أن يتجاوب مع توجهات روسيا، وقد يكون ذلك لأن روسيا أكبر من أن يستوعبها العالم الغربي، إضافة إلى أن العقلية الروسية بعيدة عن العقلية الغربية. إلا أن هذا الأمر لم يكن مبررا كافيا لما حدث في البلقان والعراق.

وبات واضحا أنه لا يمكن لروسيا أن تكون عضوا في الاتحاد الأوروبي و(الناتو)، فوجود روسيا داخل الناتو معناه إعلان نهاية الحلف، الذي تأسس ليكون أداة موجه ضد روسيا.في حين أن وجود روسيا داخل الاتحاد الأوروبي معناه حشد الإمكانيات الأوروبية وتوظيفها في اتجاه ما يصفه الأوروبيون بسد الفجوة بين دخل الفرد في روسيا وفي بلدان الاتحاد الأوروبي.

ولعل تزايد شعور الروس بأنه لا داعي لدخول الاتحاد الأوروبي طالما ظلت هذه المنظمة تفرض قيودا تنظيمية على اقتصاد السوق الحر، كان من أهم العوامل المؤثرة على تراجع مشروع الاندماج مع أوروبا، وقد أدى هذا الوضع إلى ان تصبح روسيا مركزا مستقلا قائما بذاته، يقيم صلات مع كافة الأطراف بشكل متوازن ومتساو.

ومرة أخرى وضعت القيادة الروسية استراتيجية قائمة على التعاون والتعايش الذي يحقق المنفعة المتبادلة بين أطراف المجتمع الدولي،إلا أن انقسام التكتل الغربي مع بدء العمليات العسكرية الأميركية في العراق، تسبب في تعطيل مساعي موسكو، بل واثر عليها سلبا.

وتجلى هذا التأثير في تراجع إمكانية التفاهم والالتقاء بين الأطراف الأساسية في المجتمع الدولي. وأصبح رأب الصدع في العلاقات الأوروبية ـ الأميركية أمرا هاما بالنسبة لروسيا، حتى تتمكن من تحقيق توجهاتها الإستراتيجية.

ومرة أخرى بدأ الغرب يعود إلى فكرة عدم استيعاب روسيا وفق رؤيتها الجديدة،وانطلقت حملة حادة من الاتهامات التي اعتبرت أن روسيا تستخدم إمدادات الطاقة كوسيلة ضغط على جمهوريات سوفييتية سابقة أخرى في حين استهدفت روسيا من هذا التحول الاعتماد على مبادئ وآليات اقتصاد السوق باعتبار النفط أو الغاز سلعة تباع في السوق.

ولا يتوقف الأمر على الاتهامات، بل يتجاوزه إلى محاولة فرض حصار على روسيا، حيث يواصل الناتو زحفه نحو الحدود الروسية من خلال ضم المزيد من الدول المجاورة أو القريبة من روسيا إلى عضويته وقد كشف عدد من قادة الحلف نية ضم جمهوريتي أوكرانيا وجورجيا. ومما لا شك فيه أن روسيا لن تكون مجرد متفرج على الحصار الذي يفرض حولها من جانب الحلف الذي كان معاديا لها في المرحلة السوفييتية.

وتتباين أراء الباحثين بين مؤيد لانضمام روسيا إلى حلف الناتو للحفاظ على استقرارها، ومن يدعو للتعاون فقط على أسس واضحة، فيما تعتقد الدبلوماسية الروسية أن هناك غموضا في سياسة الناتو وأن الحلف لا يريد إزالة هذا الالتباس.

ومن المؤكد أن الناتو يجب أن يختار اليوم، فإما أن يصبح الأداة العسكرية لمشروع العالم أحادى القطب، ما يعنى أن يستعيد دوره المعادى لروسيا، أو يتحول إلى ساحة متعددة الأقطاب هدفها الرئيسي حماية الأمن الأوروبي والعالمي في إطار مشروع العالم متعدد الأقطاب.

Email