الذاكرة المثقوبة -علي حجيج

الذاكرة المثقوبة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتحدث الكاتب الأميركي جورج أورويل في روايته الشهيرة «1984» عن شيء اسمه وزارة الحقيقة، وفي هذه الوزارة ثمة ثقب للذاكرة تختفي فيه كل الحقائق غير المهمة وغير المناسبة، ولذلك فإن الأميركيين لا يزالون يعانون من عقدة آثار حرب فيتنام وعملوا الكثير والكثير للشفاء منها ورميها في ثقب الذاكرة.

وإذا تواصلت الخسائر في العراق فإن الصرخات العالية التي تزداد يوماً عن يوم لن يستطيع البيت الأبيض تجاهلها، كما لن تستطيع الميديا الإعلامية الضخمة في أميركا تجنبها ومحاولة رميها في الذاكرة وإدخالها دائرة النسيان، لأن الأزمة كبيرة تفوق صدمة حرب فيتنام بكثير.

لهذا فإن التمني شيء والواقع شيء آخر، فإذا كان الأمر يتم إنهاؤه بالتمني فإن دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي السابق يتمنى أن يصحو ذات يوم فلا يجد آثاراً دامغة لفضيحة سجن أبو غريب البشعة ولا وجود لقضية معتقل غوانتانامو مثلما كان يتمنى ألا تعاد بث صوره مع الرئيس العراقي السابق في بغداد وأن تذهب إلى الذاكرة السحيقة، مثله مثل غولدا مائير رئيسة حكومة إسرائيل السابقة التي كانت تتمنى ألا تفضحها دمعة الحسرة بعد حرب أكتوبر المجيدة، وانكسار صلف الجنرال المتغطرس موشيه دايان، وأن تذهب إلى ثقب الذاكرة، وأولمرت الذي يتمنى الشفاء من خيبة حرب يوليو التي هزمته فيها المقاومة اللبنانية ومرّغت جيشه الذي لا يقهر بوحول الهزيمة.

وإذا كان الصهاينة يلجأون إلى جلد أنفسهم بالاعتراف بالأخطاء وهي وسيلة من وسائل علم النفس الحديث الناجعة حيث يشكلون اللجان للتحقيق في أسباب الهزيمة، إلا أن العرب هم من أكثر الأمم مكابرة حيث يحولون الهزائم إلى انتصارات والانتصارات إلى هزائم كما حصل العام الماضي في العدوان على لبنان.

حيث أصرّ فريق من اللبنانيين على أن ما حصل هو هزيمة للمقاومة في وجه الجيش المدجج بأعتى الأسلحة الفتاكة، والإسرائيليون يؤكدون من جهتهم عبر لجنة فينوغراد التي تشكلت أنهم فشلوا في القضاء على المقاومة واسترجاع جندييهم المخطوفين، وإبعاد المستوطنات والحدود الشمالية المتاخمة للبنان عن مرمى صواريخ الكاتيوشا التي ازدادت أعدادها بالآلاف.

إذا كانت في حياة الأفراد كما في حياة الشعوب والأمم محطات سوداء تسعى للتخلص من ربقتها وتتمنى على الذاكرة المثقوبة أن تلتهمها وتلغيها من الوجود، إلا أن هذه المحطات هي جزء من هذا التكوين البشري العام، النفسي منه، والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والهروب من المحطات الملتبسة هو هروب من السراب، بل الأهم من كل ذلك هو أن يتعلم المرء أو الشعوب والأمم من هذه الأخطاء ويأخذ العبر الصالحة والمفيدة للمستقبل.

فلذلك فإن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الذي زين للأميركيين أن احتلال قواته للعراق لنشر الديمقراطية كان وهماً وان هذه القوة ليست قوة امبريالية، بل قوة تحريرية أسقطتها الممارسات الخاطئة التي ارتكبتها هذه القوة الفاشلة عندما دخلت إلى هذا البلد العظيم غازية، وعمدت إلى حل قوات الجيش والأمن.

ودمرت معالم السلطة المدنية الموجودة فيه، وأفلتت العقال للفوضويين الذين عاثوا فساداً في الأرض والعباد، ودخولهم إلى المتحف العراقي الذي يعتبر أحد رموز الذاكرة العراقية الحية وعمدوا إلى نهبه وسرقته وتخريبه بطريقة وحشية انتقامية هدفها العبث بهذه الذاكرة العملاقة، تذكرنا بالغزو الإسرائيلي صيف عام 1982 لبيروت.

حيث دخلت القوات المحتلة مباشرة إلى مركز الأبحاث الفلسطيني الذي كان يعتبر رمزاً حيوياً للذاكرة الفلسطينية الجماعية وعمدت إلى نهبه وحرقه وسرقة محتوياته بأسلوب بربري قل نظيره وبعد الإجهاز على هذا المركز الكبير أعلن الضابط الإسرائيلي المشرف على هذه المهمة متباهياً بأنه تم القضاء على الشعب الفلسطيني.

إذن الذاكرة المثقوبة التي تحدث عنها جورج أورويل في روايته الشهيرة «1984» التي تنبأ فيها بنهاية البشرية تختصر العقل الامبريالي الإمبراطوري المغامر الذي يعتقد أن القضاء على ذاكرة الشعوب يعني إزالتها من الوجود وان ابتكار ذاكرة مثقوبة تلتهم الأخطاء والمحطات السوداء في تاريخ هذه الامبراطوريات الظالمة يشفيها من ارتكاباتها الوحشية ويخلق في داخلها التوازن المطلوب، إلا أن هذه النظرية أثبتت الأحداث والأيام بطلانها، لأن الشعوب، حتى شعوب الامبراطوريات العملاقة تحمل ذاكرة جماعية تأبى الظلم في كل وقت، فهي لابد أن تستيقظ يوماً وتعود إلى جادة الصواب وتجري جردة حساب لمسيرتها المتعثرة.

أما ارتكاب المزيد من الأخطاء فهو أمر غير صحيح ولن يكتب له النجاح، حتى ولو تم اختراق أكثر من ذاكرة مثقوبة، فإصلاح الأخطاء بالأخطاء هو الجريمة بعينها، ولهذا فان الشعب الأميركي وكل الشعوب العربية والعراقي في طليعتها ينتظر الخامس عشر من سبتمبر المقبل بفارغ الصبر للتقرير الذي سيصدره قائد القوات الأميركية في العراق الذي سيتم على أساسه البقاء على الأخطاء أو إصلاحها.

Email