جدوى الندوات الثقافية

جدوى الندوات الثقافية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مما لا شك فيه أن الحركة الثقافية والفكرية في أي مجتمع من المجتمعات تعتمد في جانب كبير منها على عقد الندوات والمؤتمرات الثقافية المختلفة. فبجانب النشر العلمي وصناعة الكتاب وترويج عملية القراءة والإطلاع ونشر الأفكار وتدشين المدارس الفكرية المختلفة والدور الكبير والمؤثر الذي تقوم به الجامعات والمراكز البحثية، فإن تسيير الحركة الثقافية يعتمد على عقد الندوات والمؤتمرات الدورية والمتعاقبة التي تؤدي إلى تفعيل الحياة الثقافية وزيادة نشاطها وتأثيرها.

إن عقد هذه الندوات والمؤتمرات يمثل الهواء النقي الذي يجدد الحياة الثقافية. وبدون هذه الندوات والمؤتمرات تفتقد الحياة الثقافية عاملاً مهماً من عوامل تنشيطها وتجديدها وتنقيتها من الأفكار والتعميمات الخاطئة. كما أن الندوات والمؤتمرات الثقافية تتيح طرح الأفكار الجديدة وتجريبها بدون خوف أو وجل اعتماداً على جمهور الحضور الذي يناقش ويجادل ويفند ويطور. وتتيح هذه الندوات والمؤتمرات إمكانية التواصل بين المفكرين والباحثين والنقاد بما يؤدي للإطلاع المباشر على نتاجاتهم الفكرية، والقراءة الواعية لها، وتوسيع دائرة انتشارها.

وغالباً ما تنقسم الندوات والمؤتمرات الثقافية إلى نوعين يحددهما طبيعة المؤسسات التي تقوم بعقد هذه الندوات والمؤتمرات. يأتي في الصدارة تلك الندوات الرسمية الخاضعة لمؤسسات رسمية حكومية مثل الجامعات والمراكز البحثية التابعة لها، إضافة للمراكز والمؤسسات الخاضعة للدولة والتي تهدف لصناعة الثقافة والفكر في المجتمع.

ويلي ذلك، تلك الندوات التي تقيمها بعض المؤسسات الثقافية المستقلة عن الدولة، والتي يقوم برعايتها بعض الأفراد الداعمين للعمل الثقافي أو المؤسسات غير الحكومية. وفي بعض الدول تبدو المسافة واسعة بين أهداف الأولى وأهداف الثانية، وفي البعض الآخر تتكامل وتتوحد أهداف الاثنين.

وبعيداً عن المناخ السياسي المتوفر والدرجة التي يسمح بها للعمل الثقافي والفكري، التي قد تعيق عمل أي من النوعين، فإن اللافت للنظر أن الكثير من الندوات الثقافية الحالية قد اكتسبت بعض سلبيات الواقع الاجتماعي المعيشي. وهى سلبيات قد يكون للواقع المعيشي يد فيها، لكنها زادت واستشرت بفعل القائمين على هذه الندوات من جانب، والمشاركين فيها من جانب آخر.

من أبرز السلبيات المرتبطة بالندوات والمؤتمرات الثقافية انها قد أصبحت تعبيراً احتفالياً في الكثير من الأحيان، أكثر مما تقدمه للحياة الثقافية الفعلية من تنشيط وزخم فكريين. فالملاحظ أن الكثير من هذه الندوات والمؤتمرات الثقافية تتم من أجل الجوانب الدعائية، ومن أجل إشباع أهداف معينة للقائمين عليها أكثر من ارتباطها بخطط استراتيجية ثقافية مجتمعية.

ولا يعيب ارتباط الندوات والمؤتمرات الثقافية بأهداف القائمين عليها، فلكل ندوة أو مؤتمر هدف بالتأكيد، لكن العيب هنا أن يتم حشد الأسماء والمشاركين، بدون أن تكون هناك قضية مهمة وواضحة يتم تناولها ومناقشتها. فالكثير من هذه الندوات والمؤتمرات يتم عقدها بدون أن يكون الهدف من ورائها واضحاً، حيث يتم حشد الأسماء على عجل، وبدون ترو.

وهو الأمر الذي ينعكس لا محالة على جودة الأوراق المقدمة، ومستواها، وما تضيفه إلى الحياة الثقافية والمجتمعية من إضافات جديدة وحقيقية. ولا يقف الأمر عند جودة الأوراق المقدمة ذاتها، لكنه يتعداها إلى تكرار الأوراق ذاتها، فالكثير من المشاركين في الندوات والمؤتمرات يكررون عرض أوراقهم وأفكارهم من ندوة لأخرى ومن مؤتمر لآخر.

كما أصبح الكثير من الندوات والمؤتمرات الثقافية الحالية تعبيراً عما يمكن أن نطلق عليه الشللية الثقافية والفكرية. ففي الكثير من هذه الندوات والمؤتمرات نلاحظ حضور الأسماء نفسها بشكل ممل ورتيب. وعلى ما يبدو أن إقامة الندوات والمؤتمرات يرتبط بأجندة أسماء محددة لدى القائمين على عقد هذه الندوات والمؤتمرات، يتم دعوتهم دائماً بغض النظر عما يضيفونه ويقدمونه من نقاش وأفكار جديدة. وكما نتحدث عن تكرار وجوه الفنانين والفنانات، يمكننا الآن أن نتحدث عن وجوه المفكرين الذين نطالعهم في كل الندوات والمؤتمرات بغض النظر عن جدواهم وفائدتهم.

وفي دهاليز هذه الندوات وأروقة المؤتمرات، نجد حالة أخرى مزرية من أساليب وطرق النقاش المختلفة. وهنا تبرز بشكل واضح سلبيات الواقع الاجتماعي والسياسي التي تنعكس بدرجة أو بأخرى على مستويات النقاش التي تتم عبر هذه الندوات والمؤتمرات. فلأن الواقع العربي لا يؤمن بالنقاش والحوار، ويحيل أى نقد أو تفنيد لرأى إلى مساجلات شخصية، فإن ما يحدث في الندوات والمؤتمرات يأخذ في الغالب الأعم شكلين لا ثالث لهما. فإما أن يتحول النقاش إلى فاصل ردح من المشاجرات والاتهامات المتبادلة، وإما أن يتحول إلى فاصل ممل ومبتذل من المدح والمداهنة والنفاق.

وفي الحالة الأولى تبرز الاختلافات الأيديولوجية بشكل واضح، حيث يستحكم النقاش بين الحضور بطريقة لا تتناسب مع النقاش الثقافي، وتلاقح الأفكار. وربما يبرز هذا النوع من المساجلات والعنف الأيديولوجي في تلك النوعية من الندوات والمؤتمرات التي تكون موضوعاتها حساسة مثل قضايا الإصلاح السياسي في العالم العربي أو تلك القضايا التي يستعر فيها الخلاف بين الإسلاميين وبين الليبراليين.

تفرض هذه النوعية من الندوات والمؤتمرات على جمهور الحضور حدة أيديولوجية صارمة، وتخلق لديه توجهاً واحدياً نحو العالم ونحو قضاياه، وهى مسألة على قدر كبير من الأهمية والخطورة ترتبط في جذورها العميقة بشيوع بنية الاستبداد في العالم العربي. ومن اللافت للنظر هنا أن هذه النوعية من الندوات والمؤتمرات الثقافية، تكرس من حيث لا تدري تلك البنية الاستبدادية التي تدعي أنها تناوئها وتدعو لتغييرها.

وفي الحالة الثانية يعيش الحضور حالة مبالغاً فيها من المدح والإطراء؛ فالمحاضرة عظيمة، أو أن التحليل بالغ الثراء، أو أن الأستاذ الدكتور قد قدم لنا تحليلاً رصيناً. تعكس هذه النوعية من الندوات والمؤتمرات حالة الضعف الثقافي المستشري بدرجة كبيرة، كما تعكس أيضاً بنية استبدادية تناور أكثر مما تحاور، وتداهن أكثر مما تواجه، وتتوحد أكثر مما تنفصل.

ويفضي ذلك إلى أن يصبح الذهاب إلى الندوات والمؤتمرات مجرد شكل ترفيهي لا يملي على المشاركين أي قدر من التعب والعصف والتجديد الذهنيين، كما يصبح أيضاً مجرد تمضية وقت من جانب جمهور خامل ليس لديه الوقت ولا الرغبة في بذل أي جهد نقدي حقيقي.

وفي هذه النوعية من الندوات والمؤتمرات التي يغلب عليها الطابع الشللي، يحضر الجميع من أجل المجاملة، فالمشاركون يحضرون من أجل أي نوع من الاستفادة سواء المادية أو المعنوية، والجمهور يحضر في الغالب الأعم من أجل مجاملة المشاركين، بحيث يتحول النقاش في النهاية إلى نوع من المدح الكامل، أو النقد الناعم.

وهذا النوع من الندوات والمؤتمرات لا يختلف في قليل أو كثير عن تلك الدعوات التي نتلقاها لحضور حفل زفاف، حيث يكيل الجميع آيات المدح والإطراء للعروس، ثم ينفض الفرح في النهاية في حوارات جانبية بين المدعوين وهم يتناولون طعامهم في سعادة واسترخاء.

إن الندوات والمؤتمرات الثقافية جزء لا يتجزأ من بنية المجتمعات المعاصرة، وكلما تفاعلت بشكل جدي مع الواقع المعيش كلما أصبحت أكثر تأثيراً في مجريات هذا المجتمع، وحركة الأفكار فيه. وفي عالمنا العربي نحن في أمس الحاجة للخروج من دائرة الندوات الثقافية الاحتفالية التي تؤثر بالسلب على الواقع الاجتماعي المعيشي وتكرس أسوأ ما فيه، بل إنها تعيد انتاج بنياته الاستبدادية المداهنة وتنقلها للجمهور لتجعله أكثر توحداً معها بديلاً عن مقاومتها وتغييرها.

كاتب مصري

salehabdelazim@hotmail.com

Email