التوازن بين المظهر والجوهر ـ د. لطيفة النجار

التوازن بين المظهر والجوهر

ت + ت - الحجم الطبيعي

في حوار مع إحدى طالبات الجامعة الأميركية في الشارقة، أخبرتني الطالبة أنّ أحد أساتذتها، وهو أميركي الجنسية، أبدى ملاحظة حول الفرق بين المجتمع الأميركي ومجتمع الإمارات فقال: في أميركا نستطيع أن نعرف مدى ثراء الإنسان من سيارته، فالسيارات هناك تتفاوت كثيرا، فتعكس تفاوتا واضحا في المستوى الاقتصادي لأصحابها، أما هنا في الإمارات فأغلب الناس يمتلك سيارات فاخرة، فهل الجميع هنا أغنياء؟

فأجابه الطلبة بالنفي. فتساءل: إذن كيف يستطيع معظم الناس شراء مثل هذه السيارات؟ فقالوا: بالاقتراض من البنوك. فتساءل ثانية: وهل يستحق الأمر أن يقترض المرء من البنك ليشتري سيارة فاخرة وهو يستطيع أن يشتري سيارة تناسب قدراته المادية؟ أليست السيارة وسيلة للتنقل؟ فلماذا يكلف نفسه ما لا تطيق؟ فبدأ بعد ذلك، حوار بين الطلبة والأستاذ عن تعلق الناس بالمظاهر واهتمامهم الكبير بأنْ يظهروا للآخرين في مظهر متميز يعطي الآخر فكرة ممتازة عنهم.

وفي حوار آخر مع فتاة شابة تعمل موظفة في إحدى المؤسسات، أخبرتني الفتاة التي لا يتجاوز راتبها ستة آلاف درهم، أنها لا تستطيع أن تشتري إلا «الماركات»، خاصة في الحقائب والساعات، لأن جميع زميلاتها في مكان العمل يتباهين بذلك، وهي لا تريد أن تبدو أقل منهن. على الرغم من أنّ ذلك يشكل ضغطاً كبيراً عليها، ولا يبقي لها من راتبها شيئا بعد مرور عشرة أيام من تاريخ استلامه.

وزميلة لي تبدي ملاحظة حول اختلاف اهتمامات الأطفال في وقتنا الحاضر عن الوقت الماضي، فتقول: إنّ الأطفال يبدون اهتماما واضحا بمقارنة أنفسهم بزملائهم، وبرغبتهم القوية في أن ينافسوهم في امتلاك الأشياء المادية، من مثل الحقائب والساعات والهواتف النقالة، بل إنهم يحاورون آباءهم في موضوع السفر، ويصرون على وجهة معينة، لأن أحد زملائهم سافر إليها، وهم لا يريدون أن يكون أفضل منهم.

وإذا أردنا أن ننظر إلى القضية من منظور أوسع، فإننا جميعا قرأنا في الصحف أنّ نسبة المواطنين الذين يدينون للبنوك في الدولة تتجاوز التسعين، وأنّ نسبة القروض ترتفع بشكل واضح قبيل فصل الصيف. ولا شكّ أنّ هذا الأمر يضع معظم العائلات تحت وطأة الديون، ويشكل عبئا كبيرا عليها، وهو أيضا يؤسس لنمط معين من الحياة، أصبح معظم الناس مستلبين إليه، غير قادرين على مقاومته والتحرر منه.

فقد أصبح الاهتمام بالمظاهر في مجتمعنا ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل، إذ غدا الإغراق في التعلق بالماديات والتملك وحب الظهور بمظهر لا يعكس واقع الحال مرضا لا يسلم منه إلا قلة قليلة من عقلاء الناس. وهذا أمر ولّد ظاهرة أخرى، لها انعكاساتها الخطيرة على المجتمع، وهي ظاهرة التباهي والتفاخر والتسابق بين الأقران للتفوق في تملك الأغلى والأكبر والأجمل والأندر إلى غير ذلك مما يعبر عنه اسم التفضيل في اللغة العربية.

ولو اقتصر الأمر على الحياة الاجتماعية لكان أهون وأقل ضررا، على الرغم من أنّ ذلك لا يقلل من خطورته وآثاره السلبية، ولكنه تجاوز مظاهر الحياة الاجتماعية إلى مجالات العمل المختلفة، فالتسابق بين الأقران من الموظفين والمديرين في تجميل المكاتب، والاهتمام بمسائل الديكور والزينة تحدثت عنه الصحف منذ فترة، وهذا أمر ينسحب بوضوح على كثير من المؤتمرات والندوات واللقاءات التي يصبح همّ القائمين عليها الظهور بمظهر فريد، والإتيان بشيء لم يأت به الآخرون.

والحقيقة أنّ الاعتناء بالمظهر والشكل الخارجي لا يعد عيبا في ذاته، بل إنه مطلوب، ومهم، خاصة في عصرنا هذا، ولكنّ فقدان التوازن بين الاهتمام بالمظهر والجوهر، بل إهمال الجوهر تماما، في بعض الأحيان، وإسقاطه من الحساب، والعمل فقط من أجل المظهر وحده ينبئ عن خلل كبير في التصور، ونقص واضح في القدرات، يحاول أصحابه ستره بالمبالغة في الاعتناء بالشكل والمظاهر الخارجية التي لا تعكس حقائق الأمور، ولا تنبئ عن خفاياها، ولكنها واجهة يختبئ وراءها أصحابها، محاولين ستر نقصهم وإبعاد الأنظار عن نقاط ضعفهم.

وهذا أمر نلاحظه كثيرا في أعمال الطلبة من بحوث وتقارير، إذ يبدو الاعتناء بتجميل البحث واختيار نوعية الورق، واستخدام وسائل غريبة لوضع اللمسات الأخيرة عليه أمرا مبالغا فيه إلى أقصى الحدود، خاصة عند الطلبة الذين لم يبذلوا جهدا حقيقيا في القراءة وجمع المادة والتفكير الجاد في مشكلة البحث، وتناولها تناولا ينبئ عن وعي وصبر وجهد حقيقي.

وقد أشارت بعض الدراسات في علم النفس إلى أنّ المبالغة في الاهتمام بالمظاهر والاعتناء بالشكل يشير إلى شعور عميق بالنقص عند الناس، وإلى إحساسهم بأنهم في مرتبة أقل، وإلى رغبتهم القوية في الوصول بأنفسهم إلى مستوى الآخرين الذين هم دائما في مرتبة أعلى وأفضل. كما أظهرت هذه الدراسات أنّ نسبة كبيرة من هؤلاء الناس يعانون من فقدان الثقة بالنفس، والخوف من الآخر.

وأنهم - مع ذلك- يبدون قدرة غريبة في الظهور بمظهر يخالف حقيقتهم، وقد يتفوقون في قدرتهم على خداع الآخرين والكذب عليهم. وقد بينت هذه الدراسات أيضا أنّ الاستمرار في التعلق بالمظاهر قد يكون سببا قويا في سلب الإنسان الإحساس بالسعادة. إنّ الاهتمام بالشكل أو المظهر الخارجي، إذا كان في مستواه المعقول والمقبول، دليل على تقدير الذات، والعناية بالنفس، وإشارة إلى أنّ الإنسان يقدر الجمال، ويراه قيمة مهمة في الحياة.

وهذا، بلا شك، يعكس جمالا داخليا، ويعبر عن شخصية متوازنة واثقة. ولكنّ الأمر قد ينقلب حين تغدو الحياة كلها تقديسا للمظاهر، وجريا وراء الشكل، وتباهيا بالتملك وحيازة الغالي الثمين؛ إذ تفقد الأشياء معناها، وتتراجع مجالات التنافس الحقيقية التي تبني الإنسان والأوطان إلى الوراء، حتى تغدو مما لا يسأل عنه ولا يعبأ به.

وتبرز على السطح مجالات تنافس زائفة مثلها «كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما». إنّ البناء الحقيقي هو الذي يبقى راسخا ثابتا على مرّ الأزمان، وهو المجال الحق للتنافس والتسابق. أما القشور فإنها، وإن طال بها الزمن، ستغدو يوما حطاما تذروه الرياح.

فأولى بنا ونحن نسابق الزمن لبناء وطننا الحبيب أن نتمسك بالجوهر الحقيقي ونجعله ميدان التنافس والسبق. وهذا لا يعني بأي حال إهمال المظهر وتجاهله. فتحقيق التوازن بين الأمور بميزان العقل والتبصر والنضج والتجربة أمر يستحق أن نجتهد فيه، وأن نربي أطفالنا عليه بحيث توضع الأشياء في مواضعها الحقيقية، فلا تنحرف ذات اليمين أو ذات الشمال.

جامعة الإمارات

Email