فلينظر الإنسان إلى عيوبه

فلينظر الإنسان إلى عيوبه

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يوجد إنسان كامل، أو خالٍ من العيوب والنقائص الأخلاقية، وهذا هو المتعارف عليه، أو ما يكاد يُجمع عليه معظم العقلاء. وعلى الرغم من إقرار عدد كبير من الناس بعيوبهم، إلا أن عددا آخر - قد يكون أكثر أو أقل- لا يعرف شيئا عن عيوبه، ويحتاج إلى من يبصره بها، وينبهه اليها.

الذين يعرفون عيوبهم ينقسمون قسمين كبيرين: أحدهما يعرف عيوبه، ويرى أن فضيلته الكبرى تكمن في معرفته بعيوبه وإقراره بها، ولا يجد مسوّغا لمطالبته بأكثر من ذلك. والآخر يعرف عيوبه، ويقرّ بها، ولكنه لا يكتفي بذلك، بل يسعى جادّا لمعالجتها والتخلص منها.

ولكنني سأتحدث في هذه السطور عن الفئة الثانية من الناس، التي لا تعرف عيوبها، ولم تكن على وعي بها، حتى أتاها التنبيه من أطراف خارجية، وهو أمر يحصل كثيرا، ويندر ألا يتعرض أي شخص منا لموقف مثل هذا، يواجهه فيه شخصٌ ما بعيب فيه، إما من باب النصيحة، أو من باب الانتقاص، بحسب نية المتكلم.

وتختلف ردود فعل الناس عند مواجهتهم بعيوبهم. ومن الطبيعي أن يكون للطريقة التي يتم بها التنبيه على هذه العيوب أثر في مستوى ردة الفعل. كما أن لطبيعة علاقة الطرفين ببعضهما أثرا كذلك في تحديد ردة الفعل، ولكنني سأفترض أفضل الأحوال، أي أن المصارحة بالعيب تتم بين شخصين تربطهما علاقة طيبة ببعضهما، وقد نقل الطرف الثاني للطرف الأول ملاحظته فيما يخصّ أحد العيوب التي لاحظها في شخصيته بلباقة وكياسة وذوق، فكيف ستكون ردة فعل الطرف الأول - الذي يتصف فعلا بذلك العيب؟

إننا هنا أمام احتمالين، أحدهما أن يكون إيجابيا في ردة فعله، وذلك بأن يتعرف أكثر على عيبه، وأن يقبل الملاحظة، ويعدّها نصيحة، أو هدية بحسب قول القائل: (رحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي)، ويبدأ مباشرة في محاولة إصلاح نفسه بملاحظة هذا العيب أكثر، والترصد للذات بحيث يعاقبها في كل مرة يتكرر فيه العيب نفسه، ويكافئها حين تنجح في تجاوزه أو التخلص منه بين حين وآخر حتى تعتاد على ذلك. أو على الأقل أن يبدي رغبته واستعداده للتغيير والتعديل، بهدف الرقي بنفسه وأخلاقه.

والاحتمال الآخر هو أن يكون سلبيا، وذلك يأخذ أشكالاً عدة: إما أن يرفض عقله التسليم بوجود ذلك العيب فيه، مما يتسبب في إنكاره، عن جهل وعدم قدرة على استيعاب اتصافه بذلك العيب. وهذا هو الاحتمال الأول للسلبية.

أو أن يفهم المقصود تماما بالملاحظة، وأن يشعر باتصافه بذلك العيب، ولكنه مع ذلك يكابر وينكر، كي يظهر نفسه إنسانا تاما خاليا من العيوب، وهذا هو الاحتمال الثاني للسلبية.

أو أن يعرف العيب بمجرد التنبيه والملاحظة، ولكنه يستسلم له، بحجة أن الله خلقه هكذا، وأنه لا يستطيع أن يفعل شيئا ليصبح أفضل، أو أنه يفضّل أن يبقى كما هو حتى إن كان متصفا بذلك العيب أو غيره، لأن البقاء على الحال الذي هو عليه أسهل عنده ألف مرة من محاولة إصلاحٍ لا يعرف عمّ ستسفر. وهذا هو الاحتمال الثالث للسلبية الموغلة في سلبيتها.

والاحتمال الرابع هو أن يعرف العيب، ويفهم المقصود بالملاحظة تماما، وبدلا من أن ينشغل بمعالجة هذا العيب الذي ظهر له في شخصيته، يحاول أن يقلب الأمر على محدثه وناصحه، وأن ينقّب في شخصية محاوره، ليتبين فيها أيّ عيب، ولو كان بسيطا لا يُذكر، ويضخمه، ويجعله من أشنع ما يمكن أن يتصف به إنسان من صفات، ليقول له إنه ليس بأفضل منه، وأن فيه من العيوب ما قد يتفوق على ما في الآخرين. وقد يوجّه له النصيحة بالانشغال بعيوبه والكفّ عن تتبع عيوب الناس.

والاحتمال الخامس هو أن يستوعب الملاحظة بسرعة، ويحاول بسرعة أكبر أن يجد لعيوبه مبررات، فيبدأ في تجميلها وتحسينها، وكأن هذه العيوب مزايا تُحسَب له، وليست نقائص تُؤخَذ عليه.

لا أعرف إن كانت هناك احتمالات أخرى غابت عني وأنا أستحضر ردود فعل الناس تجاه عيوبهم، وتجاه من يكشف لهم عيوبهم، إلا أنني حاولتُ قدر الاستطاعة إحصاء المحتَمَل منها، وخُيِّل إليّ - وأنا أفكر في ردود فعلي الحقيقية والمحتملة في مواقف مختلفة- أن ردود فعل الإنسان الواحد قد تختلف من موقف لآخر حتى في افتراض أفضل الظروف، فقد يكون الإنسان متسامحا جدا في حالة من حالات كشف عيب من عيوبه أمامه، وفي حالة أخرى قد يكون منكرا، وقد يكون في حالة ثالثة مبررا لذلك العيب، وهكذا.

وأمام هذه الاحتمالات السلبية المقابلة لاحتمال إيجابي واحد يبدو لي أن هذا ما يمثل أي مجتمع بصورة عامة، أي أن هذه نماذج بشرية موجودة في كافة المجتمعات البشرية، وكلها يتعايش ويتجاور ويتقاسم الأيام والليالي وعجلة الحياة تمضي.

ولكن لماذا لا نحاول أن نصرف تفكيرنا إلى النظر في عيوبنا قبل أن يمسك لنا أحد المرآة وهو يشير إلى موضع ما فينا ليقول لنا إن بهذا الموضع عطبا يجب إصلاحه، لماذا ننتظر أن يقول لنا أحد ملاحظة ما ثم تأتي ردة الفعل التي لا يعرف أي منا كيف ستكون، ولا بأي قوة ستكون؟ لماذا ننشغل دائما بالكشف عن عيوب الآخرين، ولكننا قليلاً ما ننشغل بالكشف عن عيوب أنفسنا؟

في كل تجمع بشري لا بد من وجود فئة متخصصة بإبراز عيوب الآخرين، ولكنها لا تكاد تعرف شيئا عن عيوبها، وهذه مصيبة؛ فالطبيعي أن ينشغل الإنسان بالآخرين بعد أن يفرغ من نفسه، ولكن الذي يحدث في كثير من الأحيان هو أن يؤجل الواحد منا التفكير في نفسه - فيما يختص بالعيوب فقط - حتى يفرغ من التفكير بالآخرين، وإيجاد حلول تساعدهم على التخلص من عيوبهم،

ولأن هذه العيوب الموجودة في الآخرين لا تخلص أبدا، إذ تتوالد باستمرار، فهذا يعني أن هؤلاء المعنيين بكشف عيوب الآخرين لن يجدوا وقتا للتفكير في عيوبهم الخاصة، وهذا هو مطلبهم.

والأصعب من كل هذا هو أن ينشغل بعض أفراد هذه الفئة -التي تجعل همها في بيان عيوب الآخرين- بالتنقيب عن عيوب الناس في غيابهم، أي غياب المعنيين بالأمر، فتتحول المسألة برمتها إلى ضرب من الغيبة والنميمة، ومع هذا تظل هذه الفئة على رأيها بأنها تحسن ولا تسيء، لأنها تكشف للآخرين عيوبهم في مساعدة منها للمجتمع ليتخلص من هذه العيوب بتخلص أفراده منها، متجاهلة أن عيوبها هي ستظلّ الداء الأبدي الذي لن يشفى منه المجتمع.

ليس من السهل على المرء إدراك عيوبه، ولكنه إذا أعطى نفسه الفرصة لا بد أن يصل إلى حصرها، أو حصر جزء كبير منها، وهو ما يمثل الخطوة الأولى على سبيل التغيير الذي تسعى إليه المجتمعات، ومن شأن الخطوة الأولى أن تجرّ خلفها خطوات، ولكن الأهم هو أن نبدأ، وأن ينشغل كل فرد منها بالنظر إلى عيوبه.

جامعة الامارات

moc.oohay@ononus

Email