الشخصية العربية المعاصرة

الشخصية العربية المعاصرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل يوجد ما يمكن أن نطلق عليه الشخصية العربية؟ وهل يمكن الوقوف عند سمات وملامح هذه الشخصية؟ وهل يمكن تجاوز الاختلافات الاجتماعية والسياسية والحضارية بين الشعوب العربية للتوصل إلى المشتركات العامة فيما بينها؟ وهل يمكن القيام بذلك بدون الوقوع في مخاطر التعميمات المبتسرة التي تقع فيها بحوث ودراسات الشخصية القومية؟ وهل يمكن التوصل للسمات والملامح الحقيقية للشخصية العربية بدون التسرع بفرض تلك السمات والملامح الدعائية التي يفرضها الآخرون علينا، ونساعد نحن في استدماجها والصاقها بأنفسنا؟

أسئلة كثيرة ترتبط مباشرة بالشخصية العربية المعاصرة، كما ترتبط أيضا بدرجة كبيرة بالواقع العربي المعاصر الملئ بالملابسات والتناقضات والتعارضات، المشحون بخطابات التمرد والخضوع، النهضة والسقوط، الاعتدال والراديكالية، الواقعية والخيال، المهادنة والمقاومة، الحياة والموت، التدين والانحلال، الستر والعري، الرقة والتوحش، الجرأة والخوف، الحب والكراهية، الوحدة والانقسام.

عالم موبوء بأعباء الماضي الثقيلة، وأوضاع الحاضر المحبطة، وتوقعات المستقبل اليائسة. عالم لا يؤطر حياته بنفسه، خاضع منذ عقود طويلة لتأطير الآخرين الذين يحددون له ملامحه وسماته، بل ويحددون له حدوده الجغرافية، ويعيدون تشكيلها كلما واتتهم الفرصة، وكلما فرضت عليهم مصالحهم إعادة هذا التشكيل الجغرافي. عالم مقيد بالخارج وتوجهاته، يحتسي سعادته من مقولات وزيرة الخارجية الأميركية، ويرسم خرائطه بمشورتها، ويحدد عادات وتقاليد شعوبه على نخب زياراتها، ورحابة ابتساماتها.

عالم مرسوم بعناية خبيثة، نسيجها تواطؤ الداخل مع الخارج، وتلاقي المصالح الضيقة، والرغبة في اعلاء النخبة على حساب العامة، حتى لو طالت هذه النخبة الاتهامات نفسها التي تطال العامة والتاريخ والشعوب. أليست تهمة الإرهاب تطال الجميع، ألم تكن التنميطات الغربية القذرة للشخصية العربية المعاصرة تمس الجميع، أم أنها كانت مقصورة على فئة دون أخرى من العرب المعاصرين.

علينا وسط هذا الركام الهائل من تحولات الواقع وملابساته، من عدوان الآخر وبذاءاته، من رحم الهزيمة والقصور الحضاري، أن نتساءل من نحن؟ وماهي سماتنا وملامحنا؟ وهى أسئلة مشروعة ومطلوبة، حتى لو التقت الإجابات عليها في بعض الأحيان مع تأطيرات الآخر الغربي لنا.

المهم أن نكون صرحاء مع أنفسنا، بالقدر نفسه الذي نريد فيه أن نعرف أنفسنا، بمعزل عن محاولات الآخرين لتقييدنا ضمن أطر محددة سلفا، وضمن تنميطات معدة مسبقا لنا. وهذه الصراحة تستند بالأساس إلى كون هذه السمات والملامح رغم تجذرها البنيوي هى نتاج لتلاقي التاريخي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، فهي ليست قدرا مقدرا ملازما لنا إلى أبد الآبدين.

خلف هذه الصورة المقبضة، يمكن الحديث عن سمات وملامح الشخصية العربية التي تجمع العرب من المحيط إلى الخليج، رغم المحاولات التي لم يهدأ لها بال من أجل المزيد من تفكيك وتفتيت هذا العالم، وإعادة صياغته وفق أهوائها ومصالحها. هذه الشخصية يجمعها العديد من المشتركات العامة، رغم القفز فوق العديد من التفاصيل التي تحددها اختلافات التاريخ والجغرافيا والعمق الحضاري.

وهى مشتركات مرتبطة بواقع عربي مشمول بمستويات غير مسبوقة من التدهور الحضاري، وضعف مكانتة الكونية بين شعوب الأرض وأممها، رغم ما يدعيه البعض من انفلات من ربقة هذه الوضعية العربية العامة. ربما يمكننا البدء بملمح خاص بالشخصية العربية المعاصرة، لا يخلو من مخاطر التعميم التي حذرنا منها، لكنه يمثل،

رغم ذلك، الغطاء العام والواسع للعديد من الملامح الأخرى المرتبطة بهذه الشخصية، رغم بروزها وذيوعها، وهو ملمح واحدية الرؤية للعالم، وقمع التنوع، وبتر الاشتباك مع المعطيات الأخرى. تعاني الشخصية العربية المعاصرة من واحدية الرؤية للعالم، والتعامل معه من خلال أطر محددة قد تفرضها الأسرة أو العشيرة أو القبيلة، وينميها ويغذيها المجتمع والعادات والتقاليد.

ولا تنبع هذه الواحدية من قصور عقلي وضمور فكري، بقدر ما تنبع من السياق السياسي الاجتماعي القامع الذي يفرض واحدية الرؤية، ويزرع رتابة الحياة، وينمي مشاعر الخوف والخضوع والسير بجوار الحائط، وإيثار السلامة. فالعربي أسير لما يعرفه، متآلف معه، وربما متواطئ معه أيضا.

والأمثلة العديدة الرائجة في العالم العربي مثل «اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش» و «من فات قديمه تاه» تكشف عن تلك الدرجة من التوحد برؤى العالم السابقة، والدراية بالواقع من خلال الأطر المطروحة سلفا، سواء من قبل الحاكم أو كبار السن أو الآباء.

فليس هناك ذلك القدر المطلوب من اكتشاف العالم واختباره سواء بالسلب أو بالإيجاب، كما لا يوجد ذلك التجدد والابتكار المطلوبين حتى في أصغر الأشياء الحياتية، وأقل الممارسات اليومية المحيطة بنا شأنا. يرتبط بواحدية الرؤية للعالم عدم التعاطي معه برؤى متنوعة ومتعددة، وعدم التفاعل والاشتباك مع كافة المعطيات المحيطة به.

فالعرب في تعاملهم مع اسرائيل قد انتقلوا من المواجهة العسكرية والحروب المتتالية إلى خيار السلام الذي يتحدثون عنه ليل نهار، وما بين الحرب والسلام لم يطرحوا أساليب جديدة ومتنوعة للمواجهة مع اسرائيل، ولم يغيروا رؤاهم وطروحاتهم مع مستجدات الواقع، وتحولاته المستمرة.

يرتبط بذلك العديد من الأطر الجامدة في التعليم والتدريس والإبداع السينمائي والأدبي رغم وجود بعض المحاولات الفردية هنا وهناك، التي تخرج على هذا الجمود، لتبرز قدرا ما من التنوع والتجديد. لا تقف المسألة عند الممارسات الفكرية والسياسية وارتباطاتها الرسمية أو النخبوية، لكنها تتعدى ذلك إلى العديد من ممارسات الحياة اليومية في الفرح والموت واللقاءات العائلية والقرابية المختلفة، حيث نجد الممارسات والسلوكيات نفسها التي يمارسها العرب منذ عشرات السنين بدون تجديد أو إضافة أو ابتكار.

يرتبط بما سبق الخوف من المبادرة والتجريب، والتعايش التام مع كل ما هو موجود سلفا، والمحدد من قبل الآخرين، الذين قد لا نعرفهم ولا نستطيع تحديدهم، لكنهم يحيون بيننا بقداسة مبهمة سرمدية ضاغطة ومهيمنة تجبرنا على طاعتهم واجترار ما قالوه وحددوه وفرضوه.

ويمكن هنا الإشارة إلى العديد من السمات والملامح المرتبطة بضعف القدرة على الابتكار والتجديد مثل الانغلاق على المحلي المعيش وعدم الخروج عن دائرته، والخضوع لسطوة العادات والتقاليد وعدم التفكير في مناقشتها وتفنيدها، والتمحور حول عالم الأسرة والانقياد غير العقلاني لأطرها وقوانينها المفروضة التي تدعم وتكرس الكثير من القواعد الأنانية والمصالح الضيقة غير المجتمعية.

ويفقد العربي المعاصر نتيجة لهذه الممارسات الرتيبة الواحدية المنظور الدهشة تجاه ما يحدث حوله، والقدرة على المواجهة، والتصدي القائم على التغيير. فالهزائم العسكرية المتتالية تمر مرور الكرام، والحوادث اليومية التي تتسبب في مقتل المئات تصبح جزءا من أقدار الحياة،

كما أن رتابة الإعلام وممارساته اليومية القمعية فكريا وأيديولوجيا يتم التعايش معها، وعدم رفضها، بل والاستمتاع بها.

تؤدي واحدية الرؤية وقمع التنوع وعدم الرغبة في الاشتباك مع مستجدات الواقع الجديدة إلى تكريس الطابع الأخلاقي للنظرة إلى العالم المحيط، وهى واحدة من أهم سمات وملامح الشخصية العربية المعاصرة التي يمكن أن نفسر من خلالها العديد من السمات والملامح الفرعية الأخرى.

وتكتسب الرؤية الواحدية للعالم، بغض النظر عن مصداقيتها، وربما صلاحيتها، تلك القداسة التي تجعل من تعامل العربي معها تعاملا أخلاقيا بالأساس. فمعظم الممارسات يتم تقييمها من خلال الحلال والحرام، بغض النظر عن صحة هذا الحلال وصحة هذا الحرام،

وبغض النظر أيضا عن أن أكثر من يتحدثون عن الحلال والحرام، هم أكثر من يمارسون سلوكيات تتعارض في جوهرها مع أية قيم أخلاقية متعارف عليها انسانيا. ويتيح التركيز على الحلال والحرام ذلك الانسجام الذي يحتاجه العربي المعاصر لكي يتوافق مع عالمه المتردي، وتلك القيود التى تفرض رؤى بعينها دون غيرها.

تقود واحدية الرؤية للعالم والرؤية الأخلاقية له إلى الصرامة في الحكم على الآخرين وعدم إيجاد الأعذار لهم، وهو ما يؤدي بالتبعية إلى صعوبة الانفتاح على الآخر المخالف في التوجهات والأفكار والمشارب، بغض النظر عن طبيعة هذا الآخر ومدى اختلاف توجهاته وأفكاره.

وبسبب من غلبة الحكم الأخلاقي على الآخرين يغلب أيضا ذلك التطرف الذي يميز الشخصية العربية بين الحب الشديد وبين الكراهية الشديدة. فالشخصية العربية، وبسبب من اضطرابات البنية الاجتماعية والسياسية لعقود طويلة من الزمان، وبشكل خاص تقلبات السياسة واضطراباتها الحادة، قد تأثرت أيضا بمثل هذا المناخ الذي انسحب على مجمل العلاقات اليومية، حيث العربي إما أن يحب بشدة أو يكره بشدة، وما بين فعل الكراهية وفعل الحب لا توجد خيارات أخرى.

لا ينفصل ما سبق عن واحدة من أهم سمات الشخصية العربية المعاصرة وهى التعلق بعالم المثاليات أكثر من الاشتباك الواعي الموضوعي مع الواقع المعيش. فالحديث عن الإسلام على سبيل المثال يتم من خلال مثال ماضوي يتيح إحساسا بعظم الأمة الإسلامية في الماضي مقارنة بالواقع الحالي الذي لا يريد العربي مواجهته وتغييره.

كما أن التعامل مع المرأة يتم أيضا من خلال عالم المثاليات الذي يربط جسدها بقيم الشرف والحشمة والأخلاق والارتكان لعالم الذكر الفرد الواحد. وهذا التصور المثالي للمرأة ربما هو الذي أوقع الكثير من الكتابات الغربية في خطأ التفسير القائم على هيمنة الذكر على الأنثى واستعباده له. فالعربي مازال يتعامل مع المرأة، وبشكل خاص جسدها، بوصفها مثالا للقيم الاجتماعية في أعلى مراتبها، ولأنها المثال الأعلى في منظومة القيم العربية فإنه من الواجب الحفاظ عليها وسترها.

وهى مفارقة غريبة، حيث هذا التقدير المثالي يقود إلى منظومة متوارثة عبر الأجيال من القيود والرقابة والهيمنة. تلعب هذه السمات الثلاث، واحدية الرؤية للعالم والنظرة الأخلاقية والتناول المثالي للواقع المعيش، دورا كبيرا ومحددا للكثير من السمات الأخرى الخاصة بالشخصية العربية المعاصرة مثل الانفعالية وضعف العمل الجمعي وعدم الثقة في الآخرين ممن لا ينتمون للمحيط العائلي... إلخ من السمات العديدة الخاصة بالشخصية العربية المعاصرة.

ويمكن القول بأن تطوير الشخصية العربية وتحريرها من قيود هذه السمات الرئيسة الثلاث، وما يرتبط بها من سمات أخرى، هو رهن بتغير الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة بالمواطن العربي، ورهن أيضا بمدى تفاعل هذا المواطن مع هذه التغيرات ومدى استجابته لها.

كاتب مصري

salehabdelazim@hotmail.com

Email