حل وزارة الإعلام ... هل حرر الإعلام العراقي؟

حل وزارة الإعلام ... هل حرر الإعلام العراقي؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

في التاسع من أبريل، عام 2003، سقطت الدولة العراقية التي تميزت بمركزية مفرطة وهيمنة مطلقة لنظام شمولي على جميع مرافق الحياة، وسقط معها رموزها القيادية ومؤسساتها العقائدية والقانونية، وسقطت معها كذلك هيبة الدكتاتورية وجبروتها. لقد امتلكت الدولة التي سقطت مؤسسة إعلامية كبيرة أسهمت خططها وميزانيتها الضخمة في تعطيل الكثير من مبادئ أحزاب ومنظمات وأفراد داخل العراق وخارجه،

وأسهمت في حرف الإعلاميين عن مهنة البحث عن الحقيقة وإعلانها للجمهور. فقد حرص الإعلاميون العراقيون في تلك الفترة على النظر بخوف كبير إلى الخطوط الحمراء التي رسمتها القوانين الصارمة، التي ترفض الرأي الآخر، خوفاً من تلون رقابهم بلونها.

وقد كان من مهام النظام الجديد، وبضغوط خارجية، العمل على تحرير المؤسسة الإعلامية العراقية من هيمنة الحكومة المتمثلة بالسلطة التنفيذية. فقد حُلت وزارة الإعلام بقرار الحاكم الأميركي بول بريمر، وحرص من صاغ الدستور الدائم أن يُبعد المؤسسة الإعلامية عن نفوذ السلطة التنفيذية، وحَسناً فعل، فالمادة 103 من هذا الدستور نصت على أن هيئة الإعلام والاتصالات هيئة مستقلة مالياً وإدارياً، وقد رُبطت هذه الهيئة وفق هذه المادة بمجلس النواب، وهو السلطة التشريعية التي تراقب عمل الحكومة.

وهذه في الحقيقة نقلة متميزة أصبحت بموجبها المؤسسة الإعلامية رقيباً على الحكومة بعد أن كانت بوقاً لها. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، في سياق كهذا، هو مدى قدرة الإعلاميين كأفراد، وقدرة هيئة الإعلام كمؤسسة، في ظل ما يلقاه الإعلاميون في العراق من تصفيات جسدية لم تشهد مثلها ساحات الحروب منذ الحرب العالمية الثانية،

على الارتقاء إلى مستوى المهام التي تتطلبها المرحلة الحرجة التي يمر بها العراق متجردين من ضغوط ومغريات الانتماءات التي قد تثلم بعض حياديتهم. فالإعلام لا يمكن أن يفصل عن السياسة، ولا بد للإعلامي أن يرى نفسه مصنفاً من قبل الآخرين إلى انتماء معين مهما حرص على الالتزام بالحيادية في أداء عمله.

ربما خسر الفكر الشمولي ميزات الدولة ووفرة المال وحرية الحركة، إلا أنه لم يفقد مواقعه في عقول الكثير من الناس الذين يرون في الأوضاع المأساوية التي يمر بها العراق، منذ ما يزيد على الثلاث سنوات، عاملاً يشجع على البقاء في الأطر العقلية والنفسية القديمة التي تتحسب لما قد يأتي به الغد، مقلصة بذلك من مساحة الحرية في التعبير،

ومعربة بشكل غير مباشر عن عدم ثقتها بجدوى العملية السياسية الجارية. والآن وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على سقوط النظام السابق، هل نجحت المؤسسة الإعلامية الجديدة، في الارتقاء إلى مستوى التحرر من قيود التبعية للسلطة التنفيذية ؟ أم أنها لا تزال غير قادرة على التحليق في فضاءات المهنية الحيادية؟.

لقد انتقل المناخ السياسي العراقي منذ سقوط النظام السابق من أجواء السلطة الشمولية إلى أجواء المحاصصة الطائفية والعرقية، وقد صبغت هذه الأجواء، غير الصحية، طابع الحياة في المجتمع العراقي بألوان كئيبة باهتة، وازدادت خطورتها حينما انتقلت من مقرات الأحزاب وقبة المجلس النيابي إلى الشوارع والأزقة، ومن غير الممكن أن يكون الإعلام غير متأثر بها، فما هو الدور الذي لعبه ويلعبه الإعلام في العراق إزاء ما جرى ويجري على الساحة السياسية التي صبغتها برك الدم؟.

لعل من الصعوبات الكبيرة التي يواجهها الإعلاميون العراقيون، هو تحويل التوجهات الجديدة في المجال الإعلامي، من نصوص دستورية جامدة إلى تقاليد مهنية حية تُمارس بشكل طبيعي دون تأثر بالرواسب الذهنية التي خلفها النظام السابق والتي تسعى بعض الأحزاب المشتركة في العملية السياسية إلى استخدامها لصالحها. وأبرز التقاليد الإعلامية الموروثة هو مهادنة السلطة القائمة، كمبدأ سيادي في الإعلام، يترتب عليه قيام الإعلامي أو المؤسسة الإعلامية بحذف أو إضافة ما يرضي هذا أو يسيء إلى ذاك بشكل لا واعٍ.

ليس هناك من صعوبات كبيرة في صياغة اللوائح القانونية التي تحرر الإعلام من هيمنة السلطة التنفيذية، ولكن تفعيل هذه القوانين والانتقال بالإعلام إلى الفضاء المهني لا يتأتى بين ليلة وضحاها، فالأمر يتطلب إعادة صياغة الذهنية لدى الإعلاميين من جهة وكذلك إعادة صياغة ذهنية من يمتلكون سلطات القرار في السلطة التنفيذية من جهة أخرى.

ولكن جدوى إشراف مجلس النواب على هيئة الإعلام هي الأخرى عرضة للتساؤل، فالمجلس النيابي يضم كتلاً سياسية متعددة ولكل منها ثقل خاص في اللجان المتخصصة التي تشرف على الأداء الحكومي. ولعل من البديهي أن نرى بأن تشكيلة اللجان نفسها سوف تخضع إلى الثقل الذي تتمتع به هذه الكتل السياسية، وهي منظمات ذات برامج سياسية محددة وليست أفراداً محايدين.

لذلك من بساطة التفكير الاعتقاد بأن ربط المؤسسة الإعلامية بالمجلس النيابي سوف يضمن حياديتها، بل إن ذلك يدخل المؤسسة الإعلامية في منظومة جديدة من الصراعات مما يضطرها إلى ترتيب توازن خاص يحفظ مصالح الكتل المختلفة في مجلس النواب. ولما كان لكل عملية توازن أن تخضع لمساومات المصالح فلها ضحايا كذلك والضحية الوحيدة لهكذا توازن هي الحقيقة التي لن تصل إلى الشارع العراقي وجمهوره المحبط

إلا بعد ان تصاغ بالطريقة التي تحفظ التوازن في المصالح بين من يجلس تحت قبة المجلس النيابي. كما أن من نتائج هذا الاتزان، اختلال معايير كثيرة أبرزها معيار الكفاءة في اختيار القيادات الإعلامية التي تقوم بوضع السياسات في المجال الإعلامي، إذ تتغلب عليه معايير أخرى تتعلق بالانتماء الحزبي أو الولاء المذهبي أو العرقي أو المناطقي أو الشخصي.

لذلك فإن ارتباط هيئة الإعلام بمجلس النواب ليس بضمان على سلامة هذه الهيئة من التدخلات التي قد تحرفها عن مهنيتها، فالمحاصصة العرقية والطائفية التي فرضتها أجندة المرحلة التي أعقبت سقوط النظام السابق قد فرضت نفوذها على المواقف التي تتخذها الكتل السياسية خاصة وإن هنالك بعض الأطراف التي من مصلحتها تكريس تقاليد المرحلة الانتقالية، فذلك يمنحها أغلبية مريحة لتنفيذ أجندتها بعيداً عن المعايير السائدة في الدول المتقدمة والتي أساسها الكفاءة العالية والمهنية المتميزة والأمانة والنزاهة.

إلا أن ذلك لا يهم كثيراً طالما لا يقتصر الإعلام على المؤسسة الحكومية وحدها فهنالك الإعلام غير التابع إلى الهيئة المشار إليها، وهو الإعلام الذي تمتلكه الأحزاب والمنظمات وربما الأفراد، الذي يتمثل في الصحف والمجلات والمحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية الفضائية، وفي حرية عقد الاجتماعات والندوات في الداخل والخارج، وهو إعلام يفترض أن يكون حراً في التعبير عن وجهات نظر من يقف وراءه، ويفترض كذلك أن يرقى إلى مستوى المسؤولية في معالجة القضايا الساخنة التي باتت تؤرق كل عراقي سواء كان في العراق أو خارجه.

لم ترتق وسائل الإعلام في العراق، عدا القليل منها، إلى مستوى المسؤولية التي تتطلبها المرحلة الخطرة التي يمر بها العراق، فقد تخندقت أكثرها خلف متاريس هذا الحزب أو ذاك مكرسة هويات مختلفة للعراقيين، ويلاحظ من يتابع الإعلام العراقي في الصحف الإلكترونية، بشكل خاص، أن هنالك ما يمكن تسميته بالانفلات الإعلامي والتسيب الذي يتنافى مع المسؤولية اتجاه قيم الإعلام وقيم المجتمع،

فهنالك قدر كبير من الشطط ومن السلوك البعيد عن المسؤولية يهدف إلى إثارة النعرات التي تسهم في تمزيق لحمة البلد، ويتناول الكثير منها سيراً شخصية تصل في أحيان كثيرة إلى حدود القذف والشتيمة للآخرين مما يزيد من احتقانات الشارع السياسي العراقي المكهرب ويدفعه إلى المزيد من التداعيات والترديات نحو مستقبل مجهول.

كاتب عراقي

majamal@emirates.net.ae

Email