حزنٌ يتجدد

حزنٌ يتجدد

ت + ت - الحجم الطبيعي

حلّ الحزنُ ضيفًا ثقيلاً على الشعب الإماراتي ليطفئ شمعة من شموع بلادنا، ويغتال رمزًا من رموز البذل والعطاء فيها، ويجدّد مصابَنا في ركن ثانٍ من أركان دولتنا الآمنة؛ إذ ابتُليَ شعب الإمارات بفقد الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم ـ طيّب الله ثراه ـ، الذي انتقل إلى جوار ربّه راضيًا مرضيًّا بإذنه ـ تعالى ـ صباح الأربعاء الماضي.

في ذلك الصباح اتّشحت دولة الإمارات العربية المتحدة بالسواد، بعد أن ترجّل الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم ـ رحمه الله ـ عن جواد الدنيا، التي كان زاهدًا فيها ومعرضًا عنها، بصمته الوادع، وهدوئه المعهود، تاركًا خلفه شعبًا ألجمته مفاجأة الصدمة عن القدرة على فهمها أو استيعابها، فاستقبلها بدهشة المفجوع الذي يشعر لوهلة أنه لم يعُدْ يملك دموعًا للبكاء، ولا صوتًا للعويل، ولا عقلاً للفهم وللسؤال والاستفسار.

رحل الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم فنكأ هذا الرحيل جراحَ حزن عشّش في نفوس أفراد الشعب الإماراتي منذ عام تقريبًا، وجدّد نزفها، وبعث آلامها التي كانت تتخفّى تحت رماد الصبر والتصبر مرة أخرى، فإذا بشعب الإمارات يذرف دموعه مرتين، ليعبر عن حزن يحمل بين ثناياه مذاق حزن سابق لا يزال حاضرًا في نفس كل فرد فينا، لم يملك خلال ما يزيد على العام دفنه في أعماق نفسه، أو التخلص منه والتخفف من ثقله.

لقد عاود جدول الحزن الجريان على أرضنا مرة أخرى في وقت أسرع بكثير مما كنّا نعتقد أو نتخيّل، فقد كنّا على موعد معه قبل عام ونيّف من الآن، حين رحل الوالد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -عليه رحمة الله ورضوانه، في شهر رمضان المبارك. ولم نكدْ نخلع عنّا السواد، ونودع لون الحداد، حتى باغتَنا هذا الجدول بمروره بيننا مرة أخرى، ليجدد فينا إحساس اليتم الجماعي الذي ذقنا مرارته قبل عام، ولا نزال نعاني آثار تلك المرارة إلى اليوم، فإذا بها تتجدد تاركة في الحلق غصةً، وفي القلب حرقةً.

وإذا كانت تجربة اليتم الجماعي التي مرّ بها الشعب الإماراتي بوفاة والدنا الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان من أصعب الاختبارات التي ستظل قائمة في ذاكرة جميع أفراد الشعب الإماراتي على المدى الطويل، تشاركه في ذلك معظم الشعوب العربية، فإن مصابنا بوفاة الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم لا يقلّ صعوبة عن تلك التجربة. وقد زادت صعوبتها في النفس بمجيئها على حين غفلة منّا، ونحن غير مهيئين لغياب كهذا، كما أننا لم نستفِقْ بعْدُ من غفوة الغياب السابق.

ولعل ما يخفف المصاب في رحيل الفقيديْن أننا ودعنا الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -طيّب الله ثراهـ قبل عام ونيّف، في أيام فضيلة مباركة، هي أيام شهر رمضان المبارك. كما أننا نودّع الآن الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم -عليه رحمة اللهـ في أيام مباركة أيضًا، هي الأيام العشرة الأوائل من شهر ذي الحجة المبارك، وكأن هذه البلاد الطيبة تأبى أن يغادرها الصالحون من أبنائها إلا في أيام مباركة أيضًا.

ومما يخفف علينا مصابَنا في رحيل الفقيديْن أيضًا أن كلاًّ منهما قد ترك خلفه حين رحل شعبًا بل شعوبًا تدعو له بالرحمة والمغفرة والرضوان من الله -عز وجل ـ، وترجوه ـ جلّ وعلاـ أن يسكنه فسيحَ جناته، وأن يكلأه بعين رعايته، جزاء ما قدّم من خير وإحسان، دون أن تعرف شماله بما قدمت يمينه.

إن خسارتنا ـ شعب الإمارات ـ خاصة، والشعوب الخليجية والعربية عامة ـ برحيل الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم ـ رحمه الله ـ كبيرة، ومصابنا فيه عظيم، رسّخ حضور مفردات الرحيل والغياب والوداع في نفوسنا، ومنحها حيزًا ومعنى في قاموسنا، ولكننا لا نملك أن نقول إلا «إنّا لله وإنّا إليه راجعون»، وقلوبنا تلهج بالدعاء له بالرحمة، وبأن يجعل الله قبره روضة من رياض الجنة، وعزاؤنا أنه ترك من بعده خيرَ خلفٍ لخير سلف، ليتابع مسيرةً بدأها الراحل منذ وقت مبكر من عمره، حمل فيها هَمَّ بناء الوطن والمواطن على كتفيه، ولم يكن ليطرح عنه هذا الهم الذي كان يؤرقه لولا أن قضى الله أمرًا كان مفعولاً، فسلّم القياد إلى خَلَفِه الذي كان خير عون له في حياته، وإنه لحقيق بأن يحمل همّه بإخلاص وأمانة بعد وفاته.

جامعة الإمارات

Email