لماذا تخلف السودانيون وتقدم غيرهم ؟ ـ د. حيدر إبراهيم علي

لماذا تخلف السودانيون وتقدم غيرهم ؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

تمر بعد أيام قليلة خمسون سنة أو عاماً على نيل السودان لاستقلاله السياسي وهي فترة كافية في عمر الشعوب ـ وليست قصيرة كما يدعي المبررون ـ لكي نتوقف لنجرد وننقد ونحاسب أنفسنا، ولكي نأمل ونستشرف المستقبل. ويتجنب السودانيون في غالبيتهم النقد والنقد الذاتي والمواجهة، مختبئين خلف المجاملة والأدب والدماثة.

فالنقد يعادل في الفهم الشعبي كلمة «نبيشة» وهي تعني نبش الماضي أو القديم بقصد الإساءة أو التعيب أو الشماتة. والدجاج هو وحده الذي ينقد الحَب (بفتح الحاء) والموت نقاد أي يختار. لذلك تغيب كلمة النقد عن المجالين السياسي والفكري ـ الثقافي، وهو مصدر مشكلات وتوتر وخصومات رغم الحديث عن التسامح السوداني.

يربط السودانيون والعرب عموماً بين مفهومي النقد الذاتي وما يسمونه جلد الذات. وهذا ربط تعسفي ماكر يحاول تجنب ممارسة النقد الذاتي وتبخيسه وتجريمه وإدخاله في حدود العيب والمرض الشخصي، فما هي الحدود بين النقد الذاتي وبين جلد الذات المتوهم؟

وهل كل مواجهة للذات ومحاولة للاعتراف عن عيوبها أو حتى الإكثار من البحث عن العيوب والسكوت عن المحاسن والفضائل هو بالضرورة جلد للذات؟

ولأن النقد الذاتي أو الاعتراف بالذنب سلوك نادر فنحن نردد الاعتراف بالذنب فضيلة، مع أنه عمل عادي يجب أن يتكرر باستمرار. ولكننا نصل به إلى درجة ميزة كبرى هي الفضيلة. لأنه صعب لدرجة يستحق من يمارسها المدح والتقريظ.

تبدو هذه المقدمة إعتذارية وكأنها توضيح لما هو بدهي. فمن الطبيعي أن تتوقف الأمم وحتى الأفراد كل فترة وأخرى لمعرفة حساب الانجازات والإخفاقات وإلي أين تميل الموازين وكيف يمكن تعديلها سلباً أو إيجاباً؟

وكان من الطبيعي أن ننتهز هذه المناسبة في مركز الدراسات السودانية وأن نجعل من العام 2006 مناسبة للتأمل النقدي المسموع والذي ستقوم به مجموعة من المفكرين والمتخصصين والمتطلعين إلى المستقبل من الشباب.

ومن الوهلة الأولى يبدو الشعار حاداً واستفزازياً خاصة مع استخدام كلمة تخلف، وقلت في نفسي قد يقبل السودانيون كلمة: تأخر، أي لماذا تأخر السودانيون وتقدم غيرهم؟

ورغم أن المعنى واحد ولكن دلالات التخلف أشد وقعاً. وفي الحالتين هناك مقارنات تمثل المقياس لمدى التخلف أو التأخر مقابل التقدم والصعود. فالمقارنة تتم بين دول أخرى وبين السودان، وقد تقفز إلى الذهن مباشرة دول مثل ماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة مثلاً، أين كانت قبل سنوات قليلة وأين هي الآن؟

والمقارنة الأخرى موضوعها السودان حين يقارن نفسه بنفسه، وهل تراجعت بعض انجازاته عن الماضي؟ وهذه ليست نوستالجيا مريضة أو حنيناً للماضي خوفاً من الحاضر والمستقبل.

ولكن لأنه بالفعل هناك تخلف حدث بغض النظر عن الأسباب، وينطبق ذلك على مستوى التعليم والخدمات الصحية والبيئة الجيدة وقوة العملة وحيوية المدن والخدمة المدنية... الخ.

وهناك أيضاً مقارنة بين الإمكانيات الكامنة وبين المتحقق والمنجز. وهذا ما نسميه محقاً أي أن تكون قادراً وعاجزاً في نفس الوقت. والأهم من هذه المقارنة هو أن المقاييس العالمية تتحدث ـ بالأرقام ـ عن التخلف والتقدم على الأقل على المستوى المادي وهو شرط لأي أنواع أخرى من التقدم.

تظهر أمامنا إخفاقات كثيرة ونحن نستقبل العام الخمسين، تستحق التوقف. فهناك إخفاق سياسي، فالسودان كان يمكن أن يقدم نموذجاً مبكراً للديمقراطية والتعددية الحزبية واحترام الحريات. فقد تهيأت له الفرصة حين أجرى السودان انتخابات حرة ونزيهة في مطلع خمسينيات القرن الماضي. ولكن سرعان ما وقع في دائرة شيطانية من الانقلابات والانتفاضات الشعبية.

فالسؤال لم تستطع أحزاب وقوى السودان السياسية والاجتماعية أن تجعل الديمقراطية مستدامة؟ أما الإحقاق الاقتصادي، فيمكن الاكتفاء بالسؤال كيف تحولت البلاد التي رشحت لكي تكون سلة غذاء العالم أو المنطقة إلى دولة جائعة ومتسولة ولاجئة ومازالت الأراضي بكراً ومهملة وبعضها تصحر؟

وأين الإشعاع الفني والثقافي الذي كان ممكناً للسودان؟ هذه أسئلة النهضة والتقدم والتي تكشف عن تفريط السودان في دوره وإمكاناته وبالتالي اختار أو اختاره التخلف والتأخر.

نواجه بعد طرح الأسئلة، إشكاليات عظمى تكمن في تقديم الإجابات الصحيحة. وهذه مسألة تحتاج إلى قدر كبير من الموضوعية والعلمية والتجرد. خاصة وأنه ينتج عن ذلك تحديد المسؤولية أي من هو المسئول من الأحزاب أو الكيانات القائمة أو الأفراد.

وهذه عملية شائكة ومعقدة في بلد أو مجتمع يرفض النقد الذاتي أصلاً وبالتالي يصعب تحمل المسئولية خاصة في الموضوعات التي قد توحي بتقصير وطني أو بضرر على الوطن. وسيكون التمرين صعباً في شقيه الوصول إلى الحقيقة وتحميل المسئولية.

وهذا يثير قضية أخرى وهي العلاقة مع الماضي أو التعامل مع التاريخ. والسؤال هو هل يكون التاريخ عبئاً يثقل حركتنا نحو المستقبل أم يظل التاريخ عبرة ودرساً يساعد ويسرّع الحركة نحو المستقبل؟ وهناك من يجعل التاريخ حضناً دافئاً يلجأ إليه هروباً من التحديات والمجهول القادم. ونحن أصحاب مقولة: الجن الذي تعرفه خير من الجن الذي لا تعرفه.

هل نستطيع مع بداية اليوبيل الذهبي لاستقلال السودان أن نواجه واقعنا وأن نرى أنفسنا في مرآة صادقة صافية تكشف كل عيوبنا التي تسرب منها التخلف؟

كاتب سوداني

Email