تأملات في عالم المعلمة »ألبينا«

تأملات في عالم المعلمة "ألبينا"

ت + ت - الحجم الطبيعي

في برنامج بثته إذاعة BBC دار حديث حول سن التقاعد، فاتفقت معظم الآراء على أن تكون بين الستين والخامسة والستين، وكان معظم الحوار حول وظيفة المعلم، وقد تطرق البرنامج إلى عرض الاختلافات بين الدول في تقدير سن التقاعد المناسبة للمعلمين.

وكان هذا العرض مدخلاً إلى الموضوع الرئيسي للبرنامج وهو الحديث عن معلمة مكسيكية قضت أربعة وثمانين عاما في التعليم، وتقاعدت بعد أن تجاوزت المئة بعامين، بعد أن أجبرها المرض على ترك مهنتها التي قضت فيها معظم سنوات عمرها دون كلل أو ملل.

عقد البرنامج لقاءات مع بعض التلاميذ المكسيكيين الصغار الذين تحدثوا عنها بمرح وحب، ووصفوها بأنها المرأة العجوز المبتسمة دائماً ذات الشعر الأبيض الذي يمتلئ وجهها بالتجاعيد، تمر بهم أحيانا وتقدم لهم الحلوى، وتحدثهم عن أشياء مفيدة. كما قالت عنها إحدى تلميذاتها من الأمهات:

نحن نثق فيها، ونعرف أنّ أبناءنا يتعلمون بشكل أفضل معها، إنها معلمة بحق، ونحن جميعا تلاميذها ونحبها ونحترمها. ويذكر البرنامج أنّ السيدة »ألبينا« يعرفها كل الناس في المنطقة التي تسكن فيها.

وجميعهم يكنون لها التقدير والاحترام ويحملون لها في قلوبهم محبة خالصة، فقد وصفها صاحب محل لتصليح السيارات بكلمات بسيطة: إنها أفضل معلمة في المكسيك، ولا يوجد من يماثلها أو يدانيها.

»ألبينا« تحدثت عن نفسها، كان صوتها ضعيفا، ويبدو واضحا من طريقة تنفسها وسعالها الذي قطع عليها استرسالها في الحديث مرات متعددة، أنها تعاني المرض الشديد، ولكنك تشعر وأنت تستمع إليها.

ـــ وما تناهى إلينا من صوتها لم يتجاوز الثواني فقط لأن صوت المترجم يأتيك باللغة العربية لينقل لك ما تقول ـــ إنّ هذه المرأة المريضة قادرة على الإيحاء بأنها تفيض بالحب والفرح، تماما.

كما وصفها الأطفال الصغار الذين تفتقد ضحكاتهم ونظراتهم الحنون الصافية كما تقول. كانت »ألبينا« تصف تجربتها بصوتها الضعيف فتصل كلماتها إلى قلبك مباشرة، كانت تصف حبها اللامتناهي للأطفال الصغار وسعادتها بأنها قضت عمرها في تعليمهم، كانت تتحدث عن التعليم بشغف وإكبار.

فتحس من كلامها أنها راضية عن نفسها رضا عظيما، وأنها سعيدة بإنجازاتها، وأنّ قلبها عامر بالحب والامتنان. وإنّ المفارقة تتجلى بقوة وأنت تسمع صوتها المرتجف الواهن الضعيف ينقل إليك عمق رؤيتها وفرادة تجربتها وتماسك روحها الحرة المحبة.

ختمت »ألبينا« حديثها بنصيحة لكل المعلمين الشباب فقالت: على المعلمين أن يتحملوا مسؤولية أنفسهم أولا، وأن يحاولوا دائما تفهم عالم الصغار والتواصل معهم بحب وتفهّم، إنّ تعليم الصغار يحتاج أن نفهمهم وأن نقترب من دنياهم وأفكارهم.

إذا أردنا أن تصل أفكارنا إليهم يجب أن نصل نحن إلى قلوبهم أولاً. انتهى البرنامج ولكنّ الأسئلة التي تولدت في النفس لم تنته ولم تتوقف. السؤال الذي ظل ملحا بلا توقف هو: كيف استطاعت ألبينا أن تعلم كل هذه السنوات الطويلة وتبقى ـــ مع ذلك ـــ مفعمة بالحب والتقدير لعملها تفتقده وتتمنى لو أنها ما زالت تمارسه كما كانت من قبل؟

كم من القوة والطاقة والمحبة والإخلاص والتفاني كانت »ألبينا« تحمل في داخلها؟ وما ذلك السر العجيب الذي يجعل الإنسان يواصل العمل في هذا المجال ـــ رغم صعوبته وتواضع مردوده المادي والمعنوي ـــ بروح لا ينطفئ وهجها ولا ينتهي عطاؤها؟

إنّ الدوافع التي تدفع المرء للعمل والاستمرار فيه كثيرة مختلفة، ولكنها كلها تعجز عن أن تجعله محباً لعمله إلى حد التفاني فلا يجد عملاً أسمى منه يوفرله الاكتفاء .

والراحة النفسية والرضا الذي لا يعادله أي شيء في الوجود، على أن الذي قد يتبادر إلى الذهن الاستجابة التي كانت تتلقاها هذه المعلمة المثال من التلاميذ والمجتمع الصغير الذي يحيط بها ناشراً المحبة الصافية بين الجميع فهي تعطي بلا حساب، وتلاميذها وأولياء الأمور يتفاعلون مع هذا العطاء النبيل .ولا بد أن يتبادر إلى الذهن معنى آخر.

وهو ما يمكن أن يكون درساً لمن يريد أن يترك بصمة حب وعطاء في حياته وحياة الآخرين، فالعطاء يجب ألا يقاس بالمردود المادي الذي لا يلبث أن يزول، فالناتج المادي الذي يمسك بعقولنا وقلوبنا لا يوفر الراحة المنشودة .

ولا الرضا المبتغى ولا السعادة الحقيقية، فالعطاء الذي يتجاوز الرغبات القريبة والمصالح العابرة هو الذي حقق لهذه المعلمة هذا الحب لعملها وربما هذه السعادة الداخلية التي جعلت العمر يمتد بها في وظيفتها، وحقق لها محبة الناس أيضاً.

ولعل تأملنا يطول حين نتذكر واقعنا فنرى هذا العزوف المؤلم عن مهنة التعليم والإحساس الدائم بالمرارة التي تملأ نفوس كثير من المعلمين الذين يبذلون جهوداً مضنية دون أن يشعروا في نفوسهم بالراحة أو الرضا أو السعادة أو أولئك الذين ينتظرون فرصهم السانحة لينطلقوا إلى وظائف أخرى تجلب لهم الراحة الخارجية والرضا الزائف والسعادة الظاهرية.

ولو بحث المرء عن أسباب هذا العزوف أو النفور من التعليم لوجد هذه الأسباب واضحة جلية في التقدير العام الذي يغلب مفاهيم المادة وينأى عن الجوهر الحقيقي للإنسان.

ولعلنا في هذا المقام نتذكر من بيننا معلمين أثروا فينا تأثيراً لا ينقضي بعلمهم وخلقهم، فكانوا القدوة الصالحة في المواقف والأخلاق والسلوك.

وهم الذين نتذكرهم دائماّ مع الأبوين اللذين لهما الفضل الأول علينا في هذه الحياة. ونتذكر أيضاً معلمين ومعلمات أشبه بالجنود المجهولين يبذلون عصارة نفوسهم من أجل تلاميذهم وتلميذاتهم.

فيتحقق لديهم ما تحقق لدى العجوز ألبينا من رضا وما لدى تلاميذهم من حب وتقدير. والمعلمون القدوة موجودون في حياتنا يؤثرون فينا ونتأثر بهم، يضيئون الحياة بعملهم وعلمهم وأخلاقهم، يرفعون البنيان، وبغيرهم تصبح الدنيا ظلاماً في ظلام.

إن شخصية ألبينا تعطينا درساً يقول لنا إن العمل المثمر ليس له نهاية وإن التقاعد ليس له في الواقع وجود فالحياة دوماً هي العطاء من أي موقع ومن أي مكان، فالإنسان مطالب دائماً بإسعاد نفسه بسعادة الآخرين.

وإن أعظم موقع يحتله الإنسان المنتج المعطي بلا حدود هو التعليم، وليس التعليم مهنة وحسب، وإنما هو رسالة يسير فيها على طريق النبيين والمصلحين وقادة الرأي على مر التاريخ.

أما أولئك الذين يرون التعليم عبئاً يودون أن يتخلصوا منه عند أية فرصة سانحة، ويحمدون الله أنهم جنبوا أبناءهم تبعات هذه المهنة فهم شر على مفهوم العلم والتعليم ولا عزاء لهم.

جامعة الإمارات

Email