بناء الأسرة.. بناء المجتمع ـ د. فاطمة البريكي

بناء الأسرة.. بناء المجتمع

ت + ت - الحجم الطبيعي

أن تبني مجتمعًا يعني أن تنشئ أسرة؛ فالأسرة حجر الأساس في أي بناء مجتمعي، والعناية بالمجتمعات عمومًا تبدأ من العناية بالأسرة؛ فإذا صلح الأساس صلح سائر البناء، وإذا اختلّ الأساس اختّل البناء كله.ولكي تصلح الأسرة لا بدّ من توافر عدد من الصفات في ركنيْها الأساسيين، أي الزوج والزوجة، تساعدهما على إنشاء الأسرة أولا، وتنميتها تنمية صالحة وسليمة ثانيًا، والمحافظة عليها ثالثًا.

ومن جملة الصفات المُعِينَة على تحقيق ذلك، والواجب توافرها في الزوجين، صفتا الوعي بالمستقبل، والقدرة على تحمل المسؤولية.والمعروف أن مستوى هاتين الصفتين يتفاوت من شخص إلى آخر، بتأثير عوامل عدة، من بينها: المستوى التعليمي، والوضع الاجتماعي، والاستقرار النفسي، والفئة العمرية التي ينتمي إليها الفرد.

وهذه العوامل، وغيرها، تؤثر تأثيرًا مباشرًا على الفرد عند إقدامه على الزواج، وبالتالي تؤثر على المجتمع. ويحسُن بنا، من باب التخطيط لمستقبل مجتمعنا، أن نولي كل عامل من هذه العوامل أهمية خاصة، وأن ندرك دورَه في تحديد الاتجاه الذي سينحوه المجتمع، بناء على درجة اهتمامنا به.

وإذا كانت العوامل الثلاثة الأولى تخضع لظروف متعددة ومختلفة، قد يجد المهتمون ببناء المجتمعات صعوبة في ضبطها وإخضاعها لمعايير محددة، وقوانين ثابتة، تؤطر أسر المستقبل في قالب مرسوم سلفًا، لصعوبة تقنينها، وهي الخارجة مسبقًا على أي عملية تقنين، فإن العامل الأخير، أي الفئة العمرية التي ينتمي إليها الشاب المقبل على الزواج، يبدو أكثر مرونة، وأكثر استجابة لوسائل الضبط من قِبَل الجهات المسؤولة عن بناء المجتمعات، إذا تنبّهت على تأثيره في بناء الأسرة سلبًا أو إيجابًا.

إن تأثير عمر الزوجين في سلوك كل منهما لا يقتصر على حدود أسرته، بل إنه يمتدّ ليصل إلى جميع خلايا المجتمع، من خلال رفده بأفراد يحملون العادات والقيم والمبادئ والسلوكيات التي نشأوا عليها في خليتهم الصغيرة (الأسرة)، إذ لا بد أن ينشأ ناشئ الفتيان على ما عوّده والداه؛ فإذا كان هذان الوالدان غير قادريْن على تحمل مسؤولية تربية أبنائهما، لأنهما صغيرا السنّ، ولا يزالان في حاجة إلى من يقوم برعايتهما وتدبير أمورهما، فكيف سيستطيعان تربية أبنائهما، ورعايتهما نفسيًا، وجسديًا، وصحيًا، وتربويًا، ودينيًا.. الخ؟

يأتي هذا الكلام في سياق الخبر الذي نشرته إحدى الصحف المحلية، منذ أسبوع تقريبًا، عن قرار (صندوق الزواج) رفع سنّ المنتفعين بمنح الصندوق إلى إحدى وعشرين سنة بالنسبة للشباب، وثماني عشرة سنة بالنسبة للفتيات، وقد تمّ اتخاذ هذا القرار انطلاقًا من زأن الشاب يكون في هذا السن أكثر قدرة على الحفاظ على تماسك أسرته، وبالتالي توفير الاستقرار لها مستقبلاس.

لقد خطا (صندوق الزواج) خطوة إيجابية بقراره هذا، الذي من شأنه أن يؤثر كثيرًا على جوانب مختلفة في المجتمع الإماراتي، لعلّ أولها الجانب الاجتماعي الذي يمسّه القرار بشكل مباشر. ومع أن هذا القرار لا يعني تحديد سن الزواج، أو منع من هم دون هذا السنّ من الزواج، ولا يعني سوى عدم إمكانية الحصول على منحة الزواج من (صندوق الزواج) إلا لمن ينطبق عليه الشرط الآنف ذكره بالإضافة إلى الشروط الأخرى المعروفة مسبقًا،

إلا أنه ينطوي على بعد إيجابي لا بد من الإشادة به، والتنبيه عليه، وهو التفات المسؤولين في (صندوق الزواج) إلى جانب تغفله الكثير من الأسر، ويهمله عدد كبير من أولياء الأمور، لأسباب قد تعود إلى عدم وعيهم بالآثار السلبية التي يتسبب بها الزواج في سن مبكر عند الشباب والفتيات على حد سواء، أو تغليبهم صوت العاطفة على صوت العقل، بالاستجابة لرغبتهم في تزويج الأبناء والفرح بهذه المناسبة وبرؤية الأحفاد دون الالتفات لما قد يترتب على ذلك من آثار سلبية عليهم وعلى المجتمع من حولهم ،

أو لغير ذلك من الأسباب التي ليس هذا مجال الخوض فيها.إن رفع سن المنتفعين من منح الزواج، والتي تلقى إقبالا كبيرًا من أبناء الوطن، يعني أن معظم العائلات خلال السنوات القادمة ستكون أكثر نضجًا، ووعيًا، وإحساسًا بالمسؤولية، وأكثر قدرة على تدبير أمورها بنفسها، دون الاعتماد على عائلة الزوج أو الزوجة في أي شأن من شؤونها كما يحدث في كثير من العائلات اليوم، ابتداء من توفير مصروف البيت، وانتهاء بالعناية بالأطفال.

ولعل هذه الخطوة تكون تمهيدًا لما هو أكثر عمقًا وأهمية منها، وهو اعتماد سن قانوني للزواج، اتكاءً على المسوّغات التي قدمها (صندوق الزواج) لاتخاذ هذا القرار، مما من شأنه أن ينعش الوجه الاجتماعي للمجتمع الإماراتي خلال السنوات القليلة القادمة، وأن يعمل على تلافي بعض المشاكل التي نشأت نتيجة الزواج المبكر في السنوات الماضية، كارتفاع نسبة الطلاق،

خصوصًا طلاق حديثي الزواج، الذي بدأ يشكل ظاهرة غريبة، أخذت في الانتشار مؤخرًا في مجتمعنا، والإنجاب المبكر، الذي يتسلّل خطره إلى المجتمع في صمت دون أن يشعر به الكثيرون، لما في ذلك من إهمال الوالدين، صغيري السن، لأطفالهما، وغيرها.

والمطلوب الآن من المسؤولين في (صندوق الزواج)، إتماما للخطوة المباركة التي قاموا بها، هو تنظيم برامج توعية مكثفة، يتم فيها تعريف المجتمع بفئاته المختلفة بالمخاطر الجسيمة التي تترتب على زواج الفتيان والفتيات، عليهم، وعلى أسرهم، وعلى المجتمع عامة. وفي المقابل، يجدر بهم تقديم صورة حقيقية عن الجوانب الإيجابية التي ينطوي عليها مثل هذا القرار الذي نحن بصدده، وكيفية تأثير ذلك على المجتمع، انعكاسًا للآثار الإيجابية التي ستنعم بها الأسر وأفرادها، نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.

جامعة الإمارات

Email