بعد الصدمة والذهول.. حانت ساعة المواجهة، نهاية العرب .. أم بدايتهم الجديدة ؟ ـ بقلم: جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاحد 10 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 11 مايو 2003 لابد أن نخرج من حالة الصدمة والذهول التي سيطرت على الأمة بعد سقوط بغداد واستباحتها مع كل العراق للنهب والتدمير المنظمين. لابد أن نخرج من هذه الحالة لأن الأخطار لن تتوقف عند أسوار بغداد، ولأن المدافع الأميركية توجه الآن لأكثر من عاصمة عربية، ولأن القصة لم تنته.. بل لعلها مازالت في بداية البدايات من مخطط واسع وطويل المدى تعرف كل القوى المعادية أنها لن تستطيع تحقيقه إلا إذا استسلم العرب جميعا لحالة الذهول التي يعيشونها، وأقروا في نهاية الامر بأنهم يعيشون هزيمتهم التاريخية النهائية.. وهذا هو ماينبغي الوقوف ضده بكل صلابة.. فنحن لسنا في نهاية التاريخ العربي، بل في بداية معركة صعبة وقاسية من أجل ميلاد جديد للأمة.. بكل ماتعنيه الكلمات. ودعونا ونحن ننتقل من حالة الصدمة والذهول الى حالة الوعي نتوقف أمام عدد من الحقائق: ـ أولا: إن أحدا قبل اندلاع الحرب، لم يكن يتوقع أن تنتصر الآلة العسكرية العراقية الضعيفة على جيوش أقوى قوة عسكرية عرفها التاريخ، ولكن الرهان كان على أن يصمد العراق بقدر مايستطيع، وأن يتحرك الرأي العام العربي والعالمي الرافض للعدوان، وأن تكون هناك خسائر بشرية على الجانب الأميركي تفرض على الإدارة الأميركية أن تستجيب للرأي العام الأميركي أولا والعالمي بعد ذلك وتوقف هذه الحرب غير المشروعة. على الجانب الآخر كان الرهان الأميركي بسيطا وواضحا، فلا مجال للمقارنة في القوى العسكرية، وسيتم الغزو في ساعات وتستقبل القوات الغازية بالورود في الجنوب.. لتكون المعركة الحاسمة بعد ذلك في بغداد بما فيها من مخاطر حرب المدن وصعوبة حرب العصابات على الجيوش المنظمة والأرقام الكبيرة للضحايا من الجانبين فيها، لكن ماحدث شئ آخر. هندسة الشرق الأوسط الحرب التي قال وزير الدفاع الأميركي أنها ستنتهي في ست ساعات أو ستة أيام استمرت لثلاثة أسابيع، والورود التي انتظرتها القوات الغازية من اهالي الجنوب كانت قتالا مريرا.. وكانت هذه هي المفاجأة الأولى على الناحية الأخرى.. كان ماحدث سببا في توقع المزيد من القتال في بغداد التي احتشدت فيها القوات الرئيسية للنظام العراقي انتظارا لمعركة توقعناها - وتوقع العالم كله - ان تكون شرسة، وطويلة، لم يكن هناك شك في أن نهايتها سوف تكون انتصارا لقوات الغزو، ولكنه سوف يكون انتصارا بثمن باهظ للغاية. وبدون مقدمات سقطت بغداد، ووقفت الدبابات الاميركية وسط العاصمة، وانهار النظام العراقي واختفى كل مايمثل الدولة. وكانت هذه هي المفاجأة الثانية التي أثارت مشاعر الذهول والصدمة، خاصة مع غياب الرواية الحقيقية لما حدث حتى الآن، ومع تضارب التفسيرات في سبب الانهيار السريع وهل هو الخيانة، أم أسلحة الدمار الشامل الاميركية وليست العراقية التي استخدمت، أم أنها صفقة تم الاتفاق عليها. وعلى الناحية الأخرى، تم استخدام السقوط الدراماتيكي لبغداد بلا ثمن وبلا قتال، للتغطية على الحقيقة التي يراد تغييبها، وهي أن شعب العراق قاتل بضراوة لثلاثة أسابيع وصمد أمام أكبر آلة عسكرية عرفها التاريخ استخدمت أحدث الأسلحة وأكثرها دمارا بما فيها الأسلحة المحرمة دوليا. ـ ثانيا: منذ سقوط النظام في بغداد، والمحاولات المحمومة مستمرة لاستغلال حالة الصدمة التي اجتاحت ملايين العرب.. في ترسيخ مفهوم أن الهزيمة لم تكن للنظام العراقي بل كانت للقومية العربية التي لا ينبغي أن يكون لها مكان في العالم الجديد الذي تقيمه أميركا، والذي تعيد فيه هندسة الشرق الأوسط من جديد ليتحول الى مجموعة من الولايات والمحميات لتصبح اسرائيل هي الكيان الأكبر، ولتكون الهيمنة الكاملة لواشنطن بلا منازع والذين يطلقون هذه الحملة يعرفون ان الملايين التي خرجت في كل العواصم العربية والعالمية لم تكن تتظاهر دفاعا عن نظام صدام وانما دفاعا عن العراق ورفضا لاستخدام القوة في حرب لا تستند الى شرعية. وصحيح ان النظام العراقي بقيادة حزب البعث كان يرفع شعارات قومية ولكنه لم يكن يوما هو الممثل الشرعي ولا الوحيد لهذه القومية. كان نظام رفع شعارات قومية ثم تصادم معها.. فحركة القومية العربية الأصيلة لم تسع يوما الى فرض الوحدة بالقوة، ولم تضع الوحدة في مقابل الديموقراطية، واذا كان هناك من النظم العربية من فعل ذلك.. فعليه وحده مسئولية مايفعل، وليس على القومية العربية. ولنتذكر هنا ان حزب البعث الذي حكم صدام باسمه في العراق، كان جناحه الثاني في سوريا على طرف نقيض معه.. وقف ضده في حربه ضد ايران، وحاربت قواته - ضمن قوات التحالف - لتحرير الكويت بعد الغزو العراقي لها. ولنتذكر هنا أن هزيمة العراق في حرب تحرير الكويت لم تكن هزيمة للقومية العربية كما روج البعض، بل كانت انتصارا لها. فالرفض العربي للغزو العراقي للكويت كان هو أساس عملية التحرير، ووقوف القوى الاساسية في العالم العربي معارضا لضم دولة عربية لأخرى بالقوة كانت انتصارا للمبادئ الاساسية للحركة الاصيلة للقومية العربية. وقبل ذلك بسنوات أعطت الحركة القومية العربية أكثر من مثال لذلك حين كانت قيادة عبدالناصر تضع المعايير وتلتزم بأنبل مافي عروبتنا من قيم أصيلة. هكذا أعطت مصر الحماية للكويت ليعلن استقلاله وتراجعت التهديدات العسكرية لعبدالكريم قاسم، وانتهت أزمة بداية الستينات بتدعيم مبدأ الحرص على استقلال الدول العربية ورفض مبدأ ضم الاقطار العربية بالقوة. وهكذا رفض عبدالناصر ان يستخدم القوة لاعادة الوحدة المصرية - السورية بعد مؤامرة الانفصال مؤكدا ان السلاح العربي لا ينبغي ان يرفع في وجه عربي. ورغم المرارة من الانفصال فإن مصر قد ذهبت بعد ذلك الى حرب 67 من أجل حماية سوريا التي كانت مهددة بحرب عدوانية من اسرائيل ربما كانت مجرد فخ لاستدراج عبدالناصر، ولكن مانريد التركيز عليه هنا أن مرارة الانفصال لم تمنع مصر من اداء دورها والقيام بواجبها تجاه سوريا أو تجاه كل اشقائها العرب. الآن.. يراد استغلال اخطاء النظام العراقي السابق لتقديمه كممثل شرعي ووحيد للقومية العربية، واستغلال سقوطه لتكريسه سقوطا للقومية العربية، ومرة اخرى فليس ذلك بصحيح.. نعرف نحن ذلك، وتعرفه اميركا قبلنا، ولكنها تعرف ان تطبيق خريطتها الجديدة للمنطقة لن تمر الا اذا قضت على «عروبة» العرب وحولتهم الى طوائف وملل وشيع مختلفة ومتناصرة يبحث كل منهم عن الأمن والأمان عند.. «ماما أميركا» وربما عند الخالة تركيا أو اسرائيل!! ثالثا: إن هذه الحرب المعلنة على «عروبة» العرب، لا تستهدف فقط ابعادهم عن العراق وترك مصيره بين أيدي أميركا وحدها، ومنعهم من تقديم الدعم المطلوب للشعب العراقي ليتمكن من انهاء احتلال أرضه واقامة الدولة الديموقراطية الموحدة التي يتمناها ونتمناها معه.. وأيضا لا تستهدف هذه الحرب فقط ابعاد العرب عن دعم الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل حريته وفي مقاومته لحرب الابادة التي يتعرض لها، ولكنها تستهدف أساسا تمهيد الطريق لاستئناف المسيرة الاميركية لاخضاع باقي المنطقة وتطبيق الخريطة الاميركية للمنطقة. قائمة الاتهامات إن المسرح يعد الآن لضرب سوريا. وقائمة الاتهامات الاميركية كانت جاهزة منذ زمن طويل ولكنها الآن على الطاولة صحيح ان اثارتها كانت - أولا - بهدف منع سوريا من التدخل في الحرب العراقية، وهو تدخل كان مستبعدا في البداية. وصحيح ان الادارة الاميركية وافقت بعد ذلك على الحوار حول الموقف فكانت زيارة وزير الخارجية الاميركية لدمشق، ولكن الصحيح ان المطالب الاميركية الأساسية من سوريا مازالت قائمة، وأن تأجيل حسم الموضوع لا يعني الغاؤه، وان ماعرف عن السياسة السورية من مرونة لا يستطيع تخطي الحدود الحمراء المطلوب تخطيها وفقا لإدارة واشنطن. وواشنطن تعلم أن حديثها عن امتلاك اسلحة دمار شامل الآن هو حديث مستفز لكل العرب في ضوء الحقيقة التي تؤكد امتلاك اسرائيل لترسانة كاملة من الاسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية، وفي ظل عرض من سوريا والدول العربية كلها اعلان منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من هذه الاسلحة، وهو العرض الذي ردت عليه الادارة الاميركية بأن «هذا ليس هو التوقيت المناسب لمناقشته» كما قال وزير الخارجية الاميركي.. فالحديث فقط هو عن امتلاك العرب (والعرب وحدهم) لهذه الاسلحة وهو ماينبغي منعه اما اسرائيل فلها أن تفعل ماتشاء وتملك ماتريد، والحجة الوقحة هي ان اسرائيل ديموقراطية والعرب ليسوا كذلك! والسؤال هل سيسمح للعرب بامتلاك هذه الاسلحة اذا طبقوا الديموقراطية الاميركية بحذافيرها؟ وهل تسمح الديموقراطية باغتصاب الارض وتشريد الشعوب وشن حرب الابادة التي تدور الآن على أرض فلسطين؟ وواشنطن تعلم ان حديثها عن تشجيع دمشق للمنظمات «الارهابية» مردود عليه، فليس لدى دمشق الا ممثلين لمنظمات مقاومة مشروعة يخوضها الشعب الفلسطيني من أجل تحرير وطنه. وعلاقات دمشق بحزب الله اللبناني هي في هذا الاطار، فهو حزب مشروع، وهو حركة مقاومة لا يمكن ان تتوقف الا بتحرير آخر شبر من التراب اللبناني. وأيضا تعلم واشنطن أن حديثها عن احتلال سوري للبنان ليس مقبول حين يأتي من قوة تحتل العراق وتهدد باحتلال غيرها. بينما «الوجود» العسكري السوري في لبنان تنظمه اتفاقات مع لبنان والدول العربية، وكانت أميركا أول من أيدته حين كان هو الحل لإنقاذ الوضع من الكارثة. ولا أظن أن سوريا ستبقى يوما واحدا في لبنان اذا طلبت حكومته منها اخراج القوات التي جاءت لمساعدتها في انهاء الحرب الاهلية التي كادت تقضي على كل شئ في لبنان. تعلم واشنطن كل ذلك، وتعلم أن عنوان القضية هو «اسرائيل» وإن جوهرها هو أرض محتلة في الجولان ولبنان وكل فلسطين، ولكنها تريد ان تضع الموقف كله في خدمة مخططاتها للهيمنة على المنطقة.. والتي لابد أن تمر عبر تصفية القضية الفلسطينية وتفكيك العالم العربي ليقبل مالا يمكن قبوله. رابعا ربما تكون العاصفة الاميركية على سوريا قد هدأت الآن بعض الشئ، بعد أن حققت أميركا بعض أهدافها، وبعد أن أبدت دمشق قدرا من «المرونة» في معالجة الموقف، وفي ضوء أن عدوانا على سوريا بعد احتلال العراق لن يمر بسهولة. المطلوب استسلام كامل ولكن.. أميركا اذا كانت قد حققت بعض أهدافها، فهناك أهداف أخرى في الطريق للهيمنة الكاملة التي لن تتم الا بـ «سوريا» منكفئة على نفسها مشغولة بمشاكلها الداخلية لا صلة لها بقضايا الأمة. واذا كانت دمشق - من ناحية ثانية - قد أبدت قدرا من «المرونة» فالقضايا الرئيسية مازالت مطروحة، والمطلوب هو استسلام كامل للمطالب الاميركية، وهو مالا تستطيعه دمشق ولا تقوى عليه. واذا كانت الظروف لم تسمح - من ناحية ثالثة - بضرب دمشق بعد احتلال العراق، فإن ماتطمح له واشنطن أن تتغير الظروف أو تتغير دمشق.. لينتقل المخطط الاميركي خطوة أخرى الى الامام. إن كولن باول وزير الخارجية الاميركي يضع الأمور بوضوح تام: قبل الحرب قال ان ضرب العراق سيكون خطوة أولى لتغيير الأوضاع في المنطقة كلها. بعد الحرب قال ان الأوضاع الاستراتيجية في المنطقة قد تغيرت، وعلى كل الأطراف في المنطقة أن تفهم ذلك! طبعا تغيرت الأوضاع الاستراتيجية في المنطقة، والعرب يتفهمون ذلك جيدا ويدركون أن دمشق ليست وحدها تحت التهديد بعد سقوط بغداد، لكن تفهم الأوضاع لا يكفي.. فالمهم ان نعرف كيفية التعامل معها، وان نخرج من حالة الصدمة والذهول التي يراد لنا ان نبقى فيها، وان نرفض مايراد ترسيخه من أن «العروبة» قد ماتت وحان وقت دفنها، وأن نقرر بأنفسنا ولأنفسنا أن ماحدث في بغداد لا ينبغي أن يتكرر، وأن نستعيد إرادة المقاومة التي نسيناها، وأن نبدأ في تحصين أوطاننا بالعدل والحرية.. وعندها سنكتشف جميعا المعنى الحقيقي لعروبتنا. ـ نائب رئيس تحرير «أخبار اليوم» المصرية

Email