ضميرنا في ثلاجة الموتى، بقلم: مجدي شندي

ت + ت - الحجم الطبيعي

السبت 9 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 10 مايو 2003 «أهلا وسهلا بكم في فلسطين.. يوم استقلال سعيد لفلسطين » بهذه العبارات ودع قائد طائرة ايطالية قبيل أن يهبط في مطار بن غوريون فجر الأربعاء الماضي، في اليوم نفسه كان الصهاينة يحتفلون بالذكرى الخامسة والخمسين لقيام دولتهم وفق التقويم العبري. حينما سئل الطيار عن السبب قال «إن الإسرائيليين يقتلون الفلسطينيين كل يوم ». كانت هذه لحظة صحوة ضمير من رجل أجنبي لم يعش معاناة الفلسطينيين، ولم يكن أخا لهم في القومية أو الدين، وإنما مجرد شخص ربما شاهد لقطة تليفزيونية لطفل يموت أمام العدسات، أو بيتا يهدم أو شجرة زيتون تقتلع بعد أن عاشت لمئات السنين على هذه الأرض المباركة. ساءني كثيرا أن تصرفا كهذا لم يحدث من طيار عربي من أولئك الطيارين الذين يهبطون يوميا في المطارات الصهيونية، بعد أن سمحت بلدانهم برحلات جوية متبادلة، وحتى حينما رفض الطيار المصري علي مراد تفتيش طائرته من قبل الجنود الصهاينة في مطار غزة اعتبر الرأي العام ذلك نوعا من البطولة، في أوطان تتحرق شوقا لبطولات من أي نوع دون جدوى. وساءني أيضا أنه ليست لدى العرب خطة، ولا يملكون تصورا لكسب الرأي العام العالمي ومعادلة الضغوط الصهيونية، التي تعتبر كل تصرف أو ايماءة للحقوق العربية معركة فاصلة تخوضها بكل ماأوتيت من قوة.وهذه السلبية العربية تجرد قضايانا من أنصارها، فالعالم كله يعرف أن لدينا أوراقا كثيرة لكننا ممتنعون دون سبب واضح عن استخدامها أو حتى التلويح بها. راتشيل كوري على سبيل المثال، شابة أميركية في الرابعة والعشرين، مؤمنة بعدالة الحق الفلسطيني ذهبت الى غزة وجعلت من نفسها درعا بشريا لحماية أطفال فلسطين، وكانت شديدة الإخلاص لما تعتقد، تصدت لجرافة اسرائيلية شرعت في هدم أحد البيوت الفلسطينية، وقدمت روحها بين أنياب الجرافة حيث دهسوها دهسا لارحمة فيه، فهل فكر أي موظف في سفارة عربية بواشنطن في مجرد تقديم واجب العزاء لأمها وأبيها، أعتقد أن الخوف منع الجميع من ذلك، مثلما منع يوما أعضاء السفارة المصرية من إدخال أسرة عالم الصواريخ المصري عبد القادر حلمي الى مبنى السفارة، لأن العالم اتهم وقتها من جانب أحد الأجهزة الإستخباراتية الأميركية بمحاولة تهريب تكنولوجيا متقدمة الى بلده. رغم كل ذلك فإن مافعله الطيار الإيطالي أدخل السرور الى النفوس، وبقي أن نتصرف بحكمة وبما يمليه عليه ضميرنا، فلا شك أن هذا الطيار سيتعرض لمتاعب وربما يدخل في محنة بسبب ضميره الحي، وليس أقل من أن نقف الى جواره في محنته، ونوفر له عملا في إحدى شركات الطيران العربية إذا ما طرد من عمله. علينا أن نضع المصالح الوطنية العليا للأمة أمام ناظرينا، ونحن نتعامل مع هذا العالم، فالمعارك لاتخاض بالسلاح وحده، وإنما ينبغي أن تتجند لها كل الإمكانات، وأن يبذل كل منا مايستطيعه فردا كان أم دولة. في وقت من الأوقات كانت الشركات العالمية الكبرى تخشى من التعامل مع اسرائيل خشية المقاطعة العربية، الآن هناك عرب كثيرون يخشون من التعبير عن دعمهم للمقاومة الفلسطينية خوفا من إلصاق تهمة الإرهاب بهم، بالطبع ليس مطلوبا من الدول العربية أن تفعل مالا تقدر عليه، لكن هناك أشياء مقدور عليها ومع ذلك نخشاها، وهناك حقوق لا ينبغي المساومة عليها، ومع ذلك نفرط فيها فتتحول بمضي الوقت إلى حقوق للعدو علينا، كما هو الحال مع الإنتفاضة المسلحة البطلة في فلسطين. ولأن الحقوق العربية كانت واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فإن التعمية عليها يراد لها أن تتم بالأيدي العربية، الإنتفاضة مثلا في الذهن الأميركي الصهيوني ليست عملا تحرريا نابعا من ظروف الفلسطينيين ومعاناتهم تحت الإحتلال، وانما هي في تصورهم أعمال إرهابية يعتبر مشاركا فيها كل من يوفر الدعم السياسي للقضية، ومن يوفر الدعم المادي لأسر الشهداء أولأولئك الذين يهدم الإحتلال بيوتهم، ومن ثم فإن كل داعم للحق الفلسطيني ينبغي أيضا أن يشارك في قمع هذه الإنتفاضة ودفن الحقوق، وتعقب القادة المطرودين من ديارهم الى المنافي، ليس ذلك فحسب بل والدخول في علاقات تطبيع مع الدولة الصهيونية لمكافأتها على قتلنا، وهذا التصرف من جانب المعادين لقضايانا كمن يقتل شخصا ويطالب أهله بدفع ثمن الرصاص الذي قتل به أو دفع ثمن البندقية التي قتلت، وأجر المرتزق الذي تم تأجيره ليقتل. بالطبع هناك معادلة دولية مختلفة جعلت كونداليزا رايس تعتبر أمن إسرائيل مفتاحا لأمن العالم، ولكن مثل هذه الرؤى لا يصلح معها تقديم مزيد من التنازلات، أو طأطأة الرؤوس ونسيان الحقوق الثابتة للشعوب، وإنما يصلح معها تصحيح الرؤى والمفاهيم المغلوطة وإيقاظ الضمائر الميتة، والوقوف الى جانب أصحاب الضمائر الحية أمثال الطيار الإيطالي والناشطة الأميركية راتشيل كوري، أم اننا في حاجة الى من يصرخ فينا: أيها النيام انتبهوا. في وقت عصيب سابق بعد هزيمة 67 تمنت الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان أمنية جارحة، قالت في قصيدة لها « أواه وآه يافيتنام.. آه لو مليون مقاتل من أبطالك.. قذفتهم ريح شرقية، فوق الصحراء العربية... لفرشت نمارق.. ووهبتموا مليون ولود قحطانية » الآن أصبح لدينا مقاتلون لكننا نسلمهم، ومتعاطفون أصحاب ضمائر حية لكننا نجبرهم على أن يضعوا ضمائرهم في ثلاجة الموتى مثلما هو حال ضميرنا. ٍُك.ٌيفٍُُّوـيلَموَّيلهفٍ

Email