استراحة البيان ـ مساء الخير.. أيها الحزن ـ يكتبها اليوم: مجدي شندي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاربعاء 6 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 7 مايو 2003 «ذات مرة شاهدت صورة لجثة ضخمة سوداء.. كانت الجثة ملقاة على الأرض، وكان رجل أسود يطلق ساقيه للريح.. الآن أحس أن الصورة قد اختلفت تماماً، فها أنا أرى الجثة الضخمة تطلق ساقيها للريح والرجل الأسود ملقى على الأرض، قد يقول قائل ان شيئاً ما لم يتغير في الصورة، هذا صحيح لكن الصورة هي التي تتغير».. أستعير هذا المقطع للأديبة الفرنسية الرائعة فرانسواز ساجان صاحبة «صباح الخير أيها الحزن» كي أتعلق ببعض حبال الأمل بأن شيئاً ما حتماً سيتغير.. كل الأوضاع في العالم العربي تشير إلى أن التغيير يكون من الاتجاه نفسه، ننتقل دوماً من سييء إلى أسوأ، منذ سنوات طويلة لم تنقلب الصورة على طريقة فرانسواز ساجان، فلا القاتل أصبح مقتولاً.. ولا المحتل ولى هارباً، بل يأتي دائماً محتلون جدد، أحزاننا لا تظل على حالها أحزاناً انسانية شفيفة موشاة بالأمل، بل تتحول دائماً إلى اكتئاب واحباط، والذين خرجوا من ديارهم قبل خمسة وخمسين عاماً آخذين معهم مفاتيح بيوتهم أملاً في عودة قريبة، تشتتوا في المنافي يقذفهم منفى إلى منفى آخر.. تتعدد المنافي وتظهر وجهها البشع، وتتباعد طرق العودة عاماً بعد عام، أجيال جديدة تنبت، تتعلم تجرع المرارات مع الكلام.. مع ذلك يظل هناك أمل ما معلق في الأفق مثل ريشة في مهب الرياح.. أمل لا هو موصول بالسماء، ولا له أرجل يمكن أن يقف بها على أرض الواقع. كلنا منفيون بشكل أو بآخر.. سواء كان بلدنا محتلاً أو محرراً.. منفيون حين لا نتمتع بكامل حرياتنا، وحين يكون هناك أوصياء على ثرواتنا، فالأوصياء في الحالة العربية إما طامعون وإما لصوص.. في الحالتين تضيع الثروات وتفتقر الأوطان، وفي الزمن الذي يفترض ألا يكون فيه من بيننا جائع ولا فقير، يكثر الفقر وينتشر الجوع.. في أزمنة الحرية تتحول أوطاننا الى سجون كئيبة.. حوائطها موحشة.. مليئة بالدماء وأشلاء الجثث.. في زمن التقدم العلمي نتخلّف نحن.. البشرية كلها تركض للأمام ونحن نستدير للخلف ونركض. نعيد احياء أشكال بدائية كنا قد تجاوزناها منذ سنوات طويلة.. كل ذلك أفقدنا جزءاً كبيراً من انسانيتنا، لم نعد نحزن أو نفرح.. مشاعرنا أصابها القحط والجفاف، بحيث بدينا كمجاميع لا مبالية، تشيّع قتلاها بالطقوس نفسها التي تستقبل مواليدها الجدد.. الوجوه جامدة.. لا ملامح تفرق ما بين يقظتنا ونومنا.. غضبنا ورضانا.. يأسنا وأملنا.. مجاميع تبدو أجسادها واقعة تحت مخدر مزمن.. تحدث المصائب أمامنا فلا ندركها إلا بعد حين، وتنفتح أمامنا أبواب الانعتاق فلا ندرك ما حدث إلا بعد أن تنغلق مرة أخرى.. وتضيع الفرصة تلو الفرصة. الشيء الوحيد اليقظ فينا هو الأحقاد.. ذلك الجزء الحي.. مرهف الحس، العصب العاري الذي يهتاج بلمسة بسيطة ودون عناء.. ما الذي شوهنا كل هذا التشويه.. حتى الحقد لا نستخدمه الاستخدام الصحيح.. نمنعه من أن ينمو في وجه الأعداء.. ونتركه مثل وحش كاسر في وجوه اخوتنا وأصدقائنا.. تصوروا شخصاً يمنع الطعام عن أطفاله، فيما يتصرف كحاتم الطائي في مواجهة قاتليه. «الوحيد الذي كنت أخاف منه صدام حسين».. هكذا صرخ أحد العراقيين في وجه أسرة فلسطينية قبل طردها من المنزل الذي عاشت فيه لسنوات طويلة.. الأسرة المطرودة واحدة من نحو 20 ألف أسرة تعيش المأساة نفسها في العراق بعد زوال نظام الحكم. صدام حسين هو الذي كان يحمي الفلسطينيين المنفيين إلى بلاده، ذهب صدام ويجب أن يذهب من كان يحمى في نظر كثير من العراقيين الى حياة المخيمات المؤقتة عاد الفلسطينيون من العراق مرة أخرى.. مأساة انسانية تذكرهم انهم بلا وطن، وان حياتهم تبقى في مهب الريح طالما بقوا خارج فلسطين. مآسي اللاجئين عادة تبدأ ولا تنتهي، والعراقيون ليسوا أول من يذنب بحق أناس ينبغي أن ننظر لهم بعين انسانية، فقد طردوا في السابق من الأردن ولبنان وليبيا والكويت على نطاق واسع، أما كحالات فردية أو جماعية محدودة فقد ذاقوا الكأس نفسها من نصف الدول العربية على الأقل، سواء نتيجة ضغوط خارجية أو لأنهم تسببوا في اختلال معادلات خاصة بأنظمة الحكم أو بدافع الثأر كما حصل في الكويت وكما يتهددهم الآن في العراق لمجرد انهم كانوا محسوبين على صدام، وهم الذين ذاقوا منه كالآخرين، أوطاننا ملومة لأنها لم تتعامل بصدر واسع مع هؤلاء. أما المجرم الأصلي في مأساة اللجوء، فقد ظل بمنأى عن أي لوم.. اسرائيل أكبر من القوانين ومن الشرعية الدولية ومن اتفاقات جنيف ومن الأمم المتحدة حين كانت الاشياء محل احترام، أما الآن وفي العصر الأميركي، فلا احترام ولا قيمة.. مجرد أشياء شكلية وأقنعة تستخدم وقت الحاجة، ويرمى بها إلى سلال المهملات حينما تحضر مصالح الدولة الكبرى الوحيدة. لجوء من نوع آخر يلوح شبحه في الأفق.. هذه المرة عراقيون كانوا خارج أوطانهم حينما وقع الاحتلال الأميركي.. حاولوا أن يعودوا سدت في وجوههم المنافذ وأجبروا على البقاء في الشتات.. سفن تحمل عراقيين تتجه إلى أم قصر.. وحافلات تتجمع على حدود العراق من كل الجهات لكن المستعمر يرفض دخول الناس إلى وطنهم.. إلى حين. متى يتغير هذا الوضع؟ ومتى يتحرك الضمير العالمي لكي يصرخ في وجه المحتلين؟ أنتم بذلك ترتكبون جريمة ضد الانسانية.. لا أحد يعرف. ملفات اللجوء تتضخم يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام.. لا جثة الرجل الضخم الملقاة على الأرض نفخت فيها الروح مرة أخرى لتقوم وتركض، ولا القاتل تحول إلى قتيل، بل كبرت الصورة.. الجثة الضخمة تحولت إلى جثث، والقتلة لا يركضون هرباً وإنما يقفون على رأس الجثث ببجاحة منقطعة النظير حاملين رشاشاتهم، في انتظار أن يتحرك أحد حتى يعاود القاتل اطلاق الرصاص على رأسه مرة أخرى. مساء الخير أيها الحزن المعتق.. متى يحين موعد رحيلك عن هذه الأوطان.. لقد شبعنا منك يا صديقي.. كنت ليناً رهيباً عطوفاً علينا، لكن ذلك كان منذ سنوات طويلة.. يبدو انك طويل العمر حتى ظنناك لا تموت.. متى نشيّع جنازتك حتى نواريك التراب؟.. صدقني قمت بواجبك خير قيام.. دفنت من بيننا أجيالاً ماتت وطعمك في فمها، ووجهك آخر ما رأته عيونها.. نريدك أن تنزاح قليلاً.. أن تبقى على هامش الصورة أو في خلفيتها، لكن أن تحتكر المشهد وحدك.. ذلك سلوك غير انساني وأنت كنت يوماً مفعماً بالانسانية، فما الذي بدّلك. «إن الشعوب التي تساوم المستعمر على حريتها.. توقع في الوقت نفسه وثيقة عبوديتها». (جمال عبدالناصر) magdishendi@hotmail.com

Email