عن الرهبة والامبراطورية (1 ـ 2) ـ بقلم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 29 صفر 1424 هـ الموافق 1 مايو 2003 عندما استدعوا السيدة برناديت بيرس من ساحة ماديسون أفينو في نيويورك ـ اشهر دوائر الاعلان بالولايات المتحدة ـ كي يعينوها ـ دفعة واحدة ـ وكيلا لوزارة الخارجية الأميركية لشئون الدبلوماسية العامة.. كان ذلك في مطالع العام الماضي، وكان في الاستدعاء والتعيين ما يؤذن بتغيير جذري في مسار الدبلوماسية والاعلام في ادارة الرئيس جورج دبليو بوش. يومها توقع المراقبون ـ بالأدق راهنوا ـ على أن هذا التغيير سيكون ايجابيا الى حد ليس بالقليل.. لماذا؟ ـ لأن الشعار الذي رفعوه في ذلك الحين كان موجها الى شعوب وأمم العالم الخارجي وكان الشعار يقول: ـ من أجل أن نفوز بعقل هذه الشعوب وقلبها. ورغم التبسيط الذي يتسم به مثل هذه الشعار، الى درجة التسطيح في بعض الاحيان الا أن الرهان كان يقول بأن مسارات السياسة الخارجية والتوجهات الاعلامية للولايات المتحدة انما تفيد بأن القوم يبغون مزيدا من التفاهم من خلال التواصل مع تلك الأمم والشعوب: كيف لا وهذه هي القوة العظمى المتبقية ـ بل هي المتفردة الوحيدة في عالم اليوم ـ تعلن أنها تريد أن تخطب ود الشعوب فيما وراء البحار كي تفوز بقلوبها على مهاد المحبة وكي تكسب عقولها من خلال التفاهم. المراهنات والتفاؤل يومها.. أمعنت المراهنات السياسية في استشراف المستقبل لتصوره متفائلا.. قالت ان أميركا تود أن تعود الى أيام اللمعان الخوالي.. حين أعلن ساستها مع أول القرن العشرين حق الشعوب في تقرير المصير وحين دخلت قواتها مدائن العالم وأريافه خلال الحرب الكونية الثانية تحت اعلام التحرير والانعتاق من الغزو الفاشي والهيمنة النازية في أوروبا والغزو الاستبدادي العسكري الياباني في اصقاع الشرق الأقصى.. وحين لوحت وزارة خارجيتها بمشروع مارشال لاعادة تعمير ما دمرته الحرب وبمشروع النقطة الرابعة لتقديم معونات لبلدان شتى في العالم عند منعطف نصف القرن. ثم تمادت المراهنات موغلة في التفاؤل أو التعلل بالأمنيات فتصورت أن أميركا.. مع مطلع الألفية الثالثة تود لو تفارق مواريث حقب ماضية كانت مسودة بآفات سياسية وأمراض سلوكية ما أنزل الله بها من سلطان،ما بين المكارثية التي فرضت على الأميركان جميعا نمطا خبيثا من الارهاب الفكري باسم مكافحة الشيوعية الحمراء في مقتبل الخمسينيات. وما بين عنجهية القوة المغرورة المدججة بأسلحة العصر.. فضلا عما شهدته الستينيات من آفة التمييز العنصري واهدار الحقوق المدنية لمواطني أميركا نفسها من السود أحفاد الشعوب الأفريقية التي ذاقت مرارة الاسترقاق في عقود خلت من الزمن، رغم أن الاجيال الماضية من أبناء هذه الشعوب السوداء هي التي تحملت عبء الكدح في مصانع الشقاء ومزارع العبودية كي تصنع التحولات الكبرى التي جعلت من أميركا شخصيا واحدة من القوى العظمى، ومن ثم جعلتها القوة الدولية الأعظم في عالم اليوم. ملكة الاعلان وحين جاءت السيدة بيرس الى الخارجية في واشنطن كان قد سبقها لقب «ملكة الاعلان» في دوائر ماديسون. وسبقتها أيضا اعتمادات سخية وضعت لحساب التحولات التي طمحت اليها وربما طالبت وطولبت بتنفيذها من أجل حكاية الفوز.. الأميركي المرتجى بقلوب الشعوب وعقولها. وكم كان أصحاب النوايا الحسنة متفائلين طيلة الأشهر التي انصرمت من عام 2002 ومن ثم العام الحالي.. وكم خابت توقعاتهم حين طرحت الطبعة الأوروبية من مجلة «تايم» الأميركية في شهر مارس الماضي سؤالا كان هو المحور لاستطلاع أو استفتاء جماهيري أرادت المجلة الأميركية العتيقة أن تقيس، أو تستبين من خلاله موقع دول معينة في عالم اليوم لدى عقل الجماهير.. وقلبها. أخطر بلدان الدنيا كان السؤال ببساطة يقول ؟ ـ ما هو البلد الذي يشكل أفدح خطر على سلام العالم خلال عام 2003 ؟ وللعلم كان حجم العينة الجماهيرية المستجيبة لهذا السؤال ولاستطلاع الرأي المذكور كبيرا.. بمعنى أنه كانت العينة تمثيلية بحق كما يقول المطلع الاحصائي اذ بلغ عدد أفرادها 318 ألف مستجيب.. أما ردودهم فقد جاءت على الوجه التالي: 7 في المئة لكوريا الشمالية و(8) في المئة للعراق (نظام صدام حسين بطبيعة الحال).. أما أكبر نسبة بمعنى أخطر بلد رأته الجماهير (الأوروبية في معظمها وهي جماهير واعية) يهدد السلم والأمن العالمي وبنسبة 84 في المئة (!) فكان: الولايات المتحدة الأميركية. آراء مبدعين كبار في هذا الاطار نعيد الى الأذهان تعليقا للكاتب الشهير جون لوكاريه (المتخصص كما تعرف في روايات الجاسوسية والتشويق السياسي) وقال فيه بالحرف: ـ «لقد دخلت أميركا احدى فتراتها من.. الجنون التاريخي»! وقد نستعيد أيضا كلمات كاتب كبير آخر.. مسرحي هذه المرة هو الانجليزي هارولد بنتر الذي استخدم لغة أكثر خشونة ومباشرة حين قال: ـ ان القنابل باتت مفردات اللغة الوحيدة التي تتكلم بها الادارة الأميركية الحالية. ونحن نعرف أن جمهرة من الأميركيين انتابهم شعور من الرعب ازاء مواقف حكومتهم ولكنهم عاجزون ـ فيما يبدو ـ عن أن يفعلوا شيئا. كاتب كبير ثالث.. أميركي حتى النخاع بل وتعتز أميركا بأن يكون من ألمع مبدعيها هو «نورمان ميلر» نشر في الآونة الأخيرة مقالا يمكن أن نعده تعبيرا عن تلك الجمهر، الأغلبية الصامتة التي أشار اليها هارولد بنتر. قال نورمان ميلر: مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس (عدد آخر مارس 2003) هي التي تولت نشر هذا المقال. وللعلم أيضا فالكاتب «نورمان ميلر» يقترب من الثمانين وقد تعلم في جامعتي هارفارد بأميركا ثم السوربون في فرنسا، ومنذ بواكير شبابه كرس قلمه للدفاع عن قضايا القطاعات السكانية والشعوب والجماهير التي تعاني التمييز أو التهميش أو الاسترقاق أو النبذ أو الحرمان. وكما نقول في كتابنا بعنوان «كتب في حياتهم» فقد ارتبطت الاعمال الابداعية والفكرية للكاتب نورمان ميلر بالدعوة الى التغيير وكشف المستور وبعقد التمرد والثورة في الستينيات، والمعارضة الشديدة الى حد العدوانية للمؤسسة الحاكمة في البيت الأبيض مما عرضه لدخول السجن ودفع الغرامات بسبب مواقفه. أفكار للتأمل بيد أن مقالته المطولة التي نشير اليها في هذه السطور لا تنطوي على روح عدوانية ولا على ما قد يورده غياهب السجون بقدر ما انها تصدر عن قناعات ومرافعات منطقية تدعو بدورها الى الفكر والى التأمل. نورمان ميلر يقول مثلا: بصراحة أكثر فان خوض (أميركا) حربا مع العراق من شأنها أن تشبع حاجتنا الى الانتقام مما حدث لنا في 11 سبتمبر.. لا يهم في هذه الحالة أن العراق ليس هو الجاني في تلك الحادثة. وقصارى ما يحتاجه بوش هو أن يتجاهل الدلائل وقرائن الاثبات.. وهو بالضبط ما يفعله مستخدما جميع السلطات التي يتمتع بها رجل ظل راضيا عن نفسه على طول الخط. ان صدام حسين ـ رغم كل ما اقترف من جرائم ـ لم يكن له يد في 11 سبتمبر لكن الرئيس بوش رجل فيلسوف (!) وكان منطقه كما يلي: 11 سبتمبر عمل شرير وصدام رجل شرير. ولما كان كل شرير يتصل بما على شاكلته.. فاذن تضرب العراق. (نورمان ميلر يستخدم من باب التهكم اللفظة اللاتينية «ارغ» لترجمة كلمة «اذن» أو «اذاً» على نحو ما استخدمها حرفيا الفيلسوف الفرنسي ديكارت في مقولته الشهيرة بالاتينية «كوغتيو، ارغو سوم» وترجمتها الأشهر: «أنا أفكر، اذن أنا موجود»). والسبب.. اسرائيل بعدها ينتقل الكاتب والمفكر الأميركي الى دافع آخر من دوافع اشعال حرب العراق..,هذا الدافع اسمه.. اسرائيل، يقول ميلر: ـ ثم أن الرئيس بوش يرمي الى تلبية احتياجات أشد خطرا أصبحت تساور عدد كبير من المحافظين الجدد (نيو كونز كما أصبحوا يعرفون) المنبثين في ادارته وهم يعتقدون أن الاسلام هو بمثابة «هتلر الجديد» أو العائد بالنسبة لاسرائيل (!!) وفيما تظل حماية اسرائيل أمرا لا غبار عليه بالنسبة للرئيس بوش من الناحية الانتخابية الا أنها أمر أصبح ملزما لا سيما وأن بوش لم يعد يعول على قدرته على أن يعطي أوامر ينصاع اليها باستمرار رئيس وزرائها شارون الذي يتمتع ـ في نهاية المطاف ـ بميزة يتفوق بها على بوش وهي الموساد (الاستخبارات الصهيونية) التي تمثل واحدة من أفضل دوائر الاستخبارات في منطقة الشرق الأدنى.. ولما كان من المعروف أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية فقيرة الى حد الإملاق من حيث الجواسيس العرب في العالم الاسلامي.. فهي لم يعد بامكانها الاستغناء عن خدمات شارون. ماذا أيضا عن النفط كدافع يحفز على اشعال الحرب ؟ هنا يحيل صاحبنا نورمان ميلر الى «رالف نادر» وهو السياسي الأميركي المخضرم ـ من أصل عربي ـ الذي نذر نفسه لحماية مواطنيه المستهلكين في الولايات المتحدة من غوائل الاحتكارات الرأسمالية ـ الأميركية طبعا ـ التي تتحكم في الاسعار وفي اتجاهات الاستهلاك وفي قوانين السوق بشكل عام..وما زال الرجل يلقى قبولا على مستوى الساحة السياسية في أميركا وكان مرشحا في السباق الرئاسي الأخير. احصاءات رالف نادر ولأن رالف نادر غارق حتى الأذنين ـ كما يقولون ـ في تحليل تيارات الاسواق واحصاء الاسعار ومؤشرات الاستهلاك فهو يعرف بالضبط ما يورده في هذا السياق حين يقول: ـ ان الولايات المتحدة تستهلك حاليا 5,19 مليون برميل نفط يوميا أو ما يعادل 26 في المئة من الاستهلاك العالمي اليومي من النفط.. وعليه، أصبح يتعين على الولايات المتحدة أن تستورد 8,9 ملايين برميل نفط كل يوم أو أكثر من نصف النفط الذي تحتاجه للاستهلاك. وأضمن الطرق المتاحة لأميركا ـ يضيف رالف نادر ـ من أجل أن تتحمل هذا الاعتماد على النفط انما تقضي بسيطرة واشنطن على 67 في المئة من الاحتياطيات النفطية المؤكدة التي تكمن تحت رمال صحراء منطقة الخليج، حيث يملك العراق وحده أو ما يعادل العراق وحده 5,112 مليون برميل أو ما يعادل 11 في المئة من الكمية المتبقية من احتياطيات النفط في العالم..ولا يفوقه في ذلك سوى المملكة العربية السعودية. هذا ما أفاد به السيد رالف نادر.. أما السيد نورمان ميلر فقد أضاف معلقا يقول: ـ وأنا من جانبي أضيف بأنه ما أن تحتل أميركا العراق (وقد فعلت) فلسوف يكون في يدها ما تتحكم به في المملكة العربية السعودية وبقية الشرق الادنى (يقصد منطقة المشرق من الوطن العربي). مع هذا كله فقد يسترعى أنظار واهتمامات المحلل السياسي أمر يلمح اليه أيضا السيد ميلر، الى جانب دوافع الدعم الاسرائيلي ودوافع الاطماع النفطية: أن هناك بعدا جديدا يضاف الى مخطط غزو، ومن ثم احتلال العراق.. هذا البعد الجديد يتمثل في كلمة واحدة هي.. المياه يقول نورمان ميلر: ـ بوسع المرء أن يشير أيضا الى أننا (الأميركان) نريد أن نذهب الى العراق من أجل المياه.. وفي هذا السياق اليك اقتباس مما كتبه ستيفن بلليتير في مقالة نشرتها جريدة «نيويورك تايمز» مع مطلع العام الحالي.. وبالتحديد يوم 31/1/2003 ويقول فيها: ـ ثمة نقاش كثير واسع النطاق دار حول انشاء ما يسمى بأنه «خط أنابيب السلام» الذي يجلب مياه (نهري) دجلة والفرات الى دول الخليج العطشى، وبالتالي الى اسرائيل صحيح أنه لم يحرز تقدماً في هذا الشأن وكان ذلك يرجع الى حد كبير الى التعنت العراقي (النظام السابق) لكن اذا ما أضحى العراق في الأيادي الأميركية فإن الأمر يمكن أن يتغير بطبيعة الحال(!) الدافع الامبراطوري الى جانب نوعي المعدن النفيس اللازمين بشكل حيوي للحياة والحضارة: الذهب النفطي الاسود والسائل المائي الفضى ـ يوجد الدافع الثالث الذي يرصده الكاتب المفكر ميلر بالنسبة لما يدور أمام أعيننا في العراق بخاصة وربما على رقعة الكرة الأرضية بشكل عام.. انه الدافع الامبراطوري دافع السيطرة الامبريالية. بين الصدمة والرهبة ألا ترى أن الشعار الذي أندلعت في ظله حملة العراق كانت تجسده عبارة مركبة من كلمتين هما: الصدمة والرهبة (وليس الرعب كما ترجموها خطأ في المصادر العربية) والرهبة هي ذلك الشعور الذي تمتزج فيه عوامل الخوف بنوازع أقرب الى الاحترام أن لم يكن الاعجاب.. وفي التاريخ جاءت غزوات المغول لتثير الرعب والفزع في نفوس خلق الله مثل صاعقة تحل بالناس ثم تمضي الى حال سبيلها، ولكن ظلت امبراطورية الرومان في القديم وظلت امبراطورية بريطانيا العظمى في الزمن الحديث تثير كل منهما الرهبة بوصفها شعورا وئيدا يستقر في النفوس وتتوارثه أجيال من بعد أجيال. هنالك لم يتورع كاتب أميركي آخر هو ما يكل اجنانييف أن يكتب في مجلة نيويورك تايمز الاسبوعية (عدد 5/1/2003) يصف هذه الامبراطورية الأميركانية الجديدة قائلا: انها الأمة ـ الدولة الوحيدة التي تقوم بدور شرطي العالم من خلال خمسة مقار للقيادة العسكرية..مستخدمة في ذلك مليون رجل وامرأة تحت السلاح منتشرين في القارات الأربع.. وناشرة مجموعات من حاملات الطائرات المقاتلة التي تسهر على أمن كل محيط، وضامنة وجود وبقاء أقطار بأكملها ما بين اسرائيل الى كوريا الجنوبية.. وقائدة لمسيرة التبادل والتجارة العالمية، ومالئة قلوب وعقول كوكب كامل بما يتغشاها من أحلام وما يساورها من رغبات. ها هو الكاتب الروائي المتمرد نورمان ميلر يعلق على هذه النعوت والتوصيفات بعبارة موجزة يقول فيها متسائلا: أي الكلمات تصف هذه الكائن الذي يستدعى الرهبة سوى كلمة «امبراطورية»؟ انها الوضع الذي تتحول اليه أميركا في هذه الأيام. بعد ذلك يشير ميلر الى الوثيقة المهمة التي سبقت الى اعدادها واصدارها وزارة الدفاع الأميركية في عام ,1992. في تلك الأيام كان وزير الدفاع اسمه ديك تشيني. أما واضع الوثيقة، أبوها الروحي كما قد نصفه، فاسمه بول وولفويتز.. ودارت الأيام كما تعرف فاذا بكل من الرجلين يكتسب لقب النائب، فالأول أصبح نائبا لرئيس الجمهورية، والثاني أصبح نائبا لوزير الدفاع. وهذا حديث موصول لا يزال. ـ كاتب سياسي من مصر

Email