الإمبراطور بوش !! ـ بقلم : معصوم مرزوق

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاثنين 22 شعبان 1423 هـ الموافق 28 أكتوبر 2002 أختلف مع كل من يعتقدون ان الرجل قد فقد عقله، أو انه لا يعرف ما يقول، أو انه هبلة ومسكوها طبلة، كما انني لا أتفق مع الهجوم الجارح الذي تشنه بعض وسائل الإعلام العربية والأجنبية على سياسات هذا الرجل، فهو إنسان عاقل تماماً رغم ما قد يبدو عليه من تصرفات، وهو يروج لسياسات تم وضعها له من خلال مؤسسات قادرة وواعية، رغم ما يحمله خطابه من لهجة توحي بانه وحده منقذ الإنسانية والحضارة، ولولاه لضاعت الدنيا... هو أبسط من كل ذلك، هو مجرد إمبراطور.. إمبراطور لا أكثر ولا أقل!!.. التاريخ يحكي لنا عن صور عجيبة ومسلية لأكثر من إمبراطور، فمنهم مثلاً من أشعل النيران في روما وجلس على أحد تلالها يغني، وهناك من كان يرسم على الأرض خريطة للأقطار التي يحكمها، ثم يدوس عليها بقدميه راقصاً، وهناك من شن الحروب المتتالية وأسهم بذلك في تدمير الإمبراطورية نفسها، وهناك.. هناك إمبراطور «الطرشي» في حواري وأزقة مصر، يكون ثروته من المرارة التي يشربها المصريون مع الطرشي الذي يبيعه لهم... والسيد «بوش» لا يختلف عن أي إمبراطور آخر.. ومن الصفات المشتركة بين أغلب من حملوا هذا اللقب، انهم يتمتعون بقدر هائل من تورم الذات والشعور بالعظمة المطلقة، فالقوة لها تأثير الخمر على رؤوس من يملكونها، فإذا كانت هذه القوة مطلقة فإن ذلك التأثير يصبح بلا حدود، فهو خمر الليل والنهار، وليس على السكير حرج.. وحتى لا نظلم الرجل فيكفي ان ننظر في الأمر ملياً.. فالجيوش لديه بعدد حصى الأرض وهي منتشرة في الأرض والبحر والجو، ولديه قدرات غير مسبوقة في تاريخ البشرية، حيث تستطيع أجهزة الرصد ان تتسلل ما بين الرجل وزوجته في أشد لقاءاتهما حميمية وسرية، وان تقرأ عقول الناس، وان تغسلها أيضاً إذا لزم الأمر، كما ان قوة النيران لديه يمكنها ان تصيب بدقة وتركيز حتى لسان خرج من فم مغضوب عليه، ويملك إن أراد ان يصب جحيماً فوق رؤوس سكان الكرة الأرضية جميعاً قبل ان ينتبه أحد، كل هذه المكنات وغيرها تدير أي رأس، وتشحن العقل بشحنات غير عادية من التفوق والغرور، وتجعل من الظلم ان نطالبه بعد كل ذلك ان يصبح إنساناً عادياً مثل أي إنسان، أو نطبق عليه معايير العدل والإنصاف والأخلاق التي نطبقها على غيره من خلق الله.. هذا الرجل هو جماع ثقافة مجتمع ادعى لنفسه العصمة، وهو خلاصة سوبرمان والرجل الوطواط وجيمس بوند ورامبو، وهو كأغلب الاميركيين من الصفوة التي ترى في نفسها مخلص العالم من الضلال، ومبعوثاً ينشر رسالته إن سلماً أو حرباً.. ومن الخطأ ان يتصور أحد ان ذلك الرجل يخترع شيئاً جديداً، فإمكانياته أقل من ذلك بكثير، كما انه لم يدع ذلك لنفسه، غاية ما في الأمر انه بحكم موقعه المرتفع يضخم نغمات هي بالفعل موجودة في المجتمع الاميركي ومنذ سنوات طويلة، بل انه يكشف عن حقائق بدأت في الظهور منذ ان عبر الإنسان الأبيض المحيط الاطلسي الى تلك الأرض، وهي حقائق تتعلق بفناء الهنود الحمر، وبحروب إبادة في آسيا واميركا اللاتينية، وباغتيالات وانقلابات مدبرة، .. كيف يمكن لأحد ان يتخيل نزع هذا الرجل من واقعه وثقافته وتاريخه ؟.. ان ذلك يعتبر محاولة لانتهاك حقوق الإنسان، تلك الحقوق التي تكفل للإنسان تمتعه بثقافته وبأسلوب التعبير عنها، ولذا فإن الانتقادات التي يحلو للبعض ان يوجهها الى ذلك الرجل تخلو من الفهم الصحيح لتلك الأبعاد، وإعتداء على الحرية التي ننادى بها جميعاً.. ومن الأخطاء المترتبة على ذلك الفهم غير الصحيح أيضاً، ان البعض يتهم تصريحات الرجل بالحماقة والتهور، رغم ان أهم صفات الإمبراطور هي الحماقة والتهور، وهي ليست صفات سلبية لانها تقترن في قاموس الإمبراطوريات بالشجاعة والإقدام، أما الحكمة والتروي فهي صفات كريهة للإمبراطور، وهو ما تحدث عنه تفصيلاً الشهير هنري كيسنجر، فالحكمة تعني عدم الثقة بالنفس وعدم استخدام الإمكانيات المتاحة، أما التروي فهو ضعف وتردد وتخاذل لا ينبغي ان يتصف به من يمتلك القوة.. أي ان الحماقة في هذه الحالة هي صفة من يرى في حماقة الإمبراطور حماقة بالمعني الدارج الذي يعتنقه الضعفاء. ولكي يصبح الكلام مفهوماً، فليس أسهل من تطبيق ذلك على ما يدور الآن بالنسبة للعراق، فالرئيس بوش يصرح بان اميركا العظمى تخشى من العراق، وان تلك الأخيرة المحطمة المنهكة يمكنها ان تهدد تلك الإمبراطورية المتضخمة، وذلك في الواقع موقف يستحق التقدير، لان الإمبراطور يحاول ان يضع إطاراً قانونياً للهجوم العسكري الذي يدبره لتحطيم ما تبقى من العراق، وأي إمبراطور غيره ليس في حاجة الى أي تبرير أو قانون، وقد ألمح بوش نفسه لذلك حين قال غير مرة انه إذا لم يحصل على التفويض الدولي اللازم فإنه ماض في تدمير العراق منفرداً.. إذن، فهو حين يطلب الغطاء الدولي فذلك تفضل وكرم منه ينبغي ان يقابل بالاستحسان والتقدير، بل ويجب على كل إنسان حريص على سيادة القانون ان يشجع هذا الاتجاه خاصة وإذا صدر من إمبراطور.. لانه إذا كان العراق مضروباً مضروباً، فمن الأفضل والأكرم من وجهة نظر القانون الدولي، ان يتم ضربه بشكل قانوني حتى ولو كان مضمون الضربة نفسها غير قانوني... ما سبق ليس فلسفة أو ـ لا سمح الله ـ سخرية، بل محاولة لوضع الأمور في نصابها، ودفاعاً عن رجل يحاول قدر جهده ان يلتزم بالشرعية الدولية ولو شكلياً، رغم انه كما قدمنا يمكنه ان يدوس، وهو يدوس بالفعل على أي شرعية، حيث ان النظام الدولي الجديد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي قد اعتمد شريعة وحيدة هي شريعة الغاب.. من السذاجة ان يظن متفائل ان المسألة تتعلق بنظام الرئيس صدام حسين، أو بأسلحة الدمار الشامل، انها تتجاوز تلك المظاهر الى ما هو أبعد، فليس من المعقول ان إمبراطورية اميركا يمكن لها ان تتأثر بنظام حكم هنا أو هناك، وهي التي أسقطت دون إطلاق طلقة واحدة إمبراطورية الشيوعية، كما انه لا يوجد عاقل يصدق ما يقال عن أسلحة الدمار الشامل العراقية بعد ان أصبحت العراق أرضاً وسماء وبحراً مستباحة لكل من هب ودب... إن غزو العراق هو المقدمة الافتتاحية لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط في ظل النظام الدولي الجديد، ولعل بعض ملامح الخريطة قد أفصحت عنها بعض مراكز الدراسات الاميركية، فالعراق هو نقطة البداية لهجوم حضاري كاسح لتطويع وتركيع الشرق الأوسط، لذلك فليس من الغريب ان نسمع الآن من يتحدثون عن مناهج التعليم في الدول العربية، ومن ينتقدون الدروس الدينية في الدول الإسلامية، بل ووصل الأمر الى وصف رموز الإسلام بالإرهاب.. ومرة أخرى أرجو ألا يفهم أحد من ذلك اننا نلوم الإمبراطور، فلا يمكن لوم إمبراطور يفكر ويتصرف بطريقة إمبراطورية، فهو متسق مع نفسه تماماً، ويجب ان ننظر اليه من هذه الزاوية وليس من أي زاوية أخرى، فمن الواضح انه قد تم تطويع الشرق والغرب، وسجد الجميع لآلهة الديمقراطية وإقتصاديات السوق، وانتشرت ثقافة الهوت دوج والهامبورجر في جميع زوايا وأركان العالم حتى شوارع موسكو وضواحي الفاتيكان، ولم يبق غير الشرق الأوسط يعاند على استحياء من خلال أيديولوجية عميقة تحمل عناصر التحدي وعدم الانصياع، تلك الإيديولوجية التي وصفها بعض كتاب اميركا والغرب بانها الخطر الأخضر الذي حل محل الخطر الأحمر.. انه الإسلام هذه المرة بلا مواربة أو قناع، هو الهدف العسكري النهائي للحملة التي ستبدأ من احدى عواصم الخلافة الإسلامية التاريخية، ولا يعلم سوى الله والبنتاغون الاميركي أين ستنتهي.. ومن المؤسف عندما تجيء لحظة الحقيقة ان نكتفي بالإفتراء على الرجل الإمبراطور وننعته بالصفات الكريهة، ولعل ذلك يريح بعض الضمائر والعقول، فحين يواجه الإنسان الضعيف خصماً عتياً قوياً، فإنه يكتفي بشتمه في سره أو أحلامه، أو يتهمه بالجنون والحماقة ويحلم بانه ذات يوم سيسترد عقله، الإنسان الضعيف في هذه الحالة يستبدل مواجهة الواقع بالفرار من الواقع، حيث يحلق في تهويمات يدعي بها لنفسه تفوقاً أخلاقياً ومعنوياً كي يواري عجزه المادي، وهو في الحقيقة عاجز في الحالتين.. ومن المهم للغاية ان نضع الأمور في نصابها، وان نفهم ان المسألة لا تتعلق بأمر طارئ أو حالة إنسان مريض، ان بوش ونظامه هو امتداد لسياسة اميركية مخططة تتجاوز الأشخاص والحوادث الطارئة، وعلى كل من يهمه الأمر ان يتعامل مع هذه الحقيقة في هذا الإطار، أما من يبني حساباته على أساس ان ذلك الإمبراطور مصاب بلوثة أو مغامر أحمق، فلسوف يدفع ثمناً باهظاً نتيجة ذلك الخطأ الجسيم في الحساب، فالمسألة لا تتعلق بمواجهة رجل أو حالة، وإنما مواجهة إمبراطورية اتخذت قرارها بالعداء، ووجهت كل قواها لتدمير العدو المفترض، وذلك العدو ليس العراق، ولا صدام حسين، ولا أسلحة الدمار الشامل، ولا حتى الإرهاب... ذلك العدو هو عقل وضمير وثقافة وفكر ودين أهل الشرق الأوسط... ـ كاتب مصري

Email