انتهازية اليمين السياسي الإسباني من سقوط غرناطة إلى 11 سبتمبر ـ بقلم: د. طلعت شاهين

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجمعة 19 شعبان 1423 هـ الموافق 25 أكتوبر 2002 عاش اليمين الإسباني قرونا طويلة معلنا عداءه لليهود واليهودية، بل كان يعتبرها الملكان الكاثوليكيان ايزابيل وفرناندو عدوا لا تقل عداوة عن الإسلام الذي قاتلاه ولم يهدأ لهما بال حتى سقطت غرناطة بين أيديهما عام 1492، بعد طول حصار وبعد قطعهما وعودا للملك أبو عبد الله الصغير والمسلمين بأن تسليم المدينة ومفاتيحها سيضمن لهم ممارسة حرية العقيدة واحتفاظهم بكافة حقوق المواطنة التي يحصل عليها المواطن المسيحي في الدولة المسيحية الجديدة الناشئة عن اتحاد قشتالة والأندلس بعد إسقاط الحكم الإسلامي فيها. كانت تلك الوعود خدعة لتسلم المدينة مفاتيحها عندما استحال على الجيش المسيحي الاستيلاء عليها بسبب عنف المقاومة، فلم تمر سوى سنوات قليلة حتى أصدرت الملكة الكاثوليكية أمرا ملكيا يفرض على المسلمين إما قبول التنصير واعتناق المسيحية أو مغادرة البلاد التي ولدوا عليها وولد عليها آباؤهم وأجدادهم، مما يعتبر نقضا صارخا لما تم الاتفاق عليه في وثيقة التسليم لتبدأ محنة المسلمين واليهود معا على أيدي تلك الملكة التي كانت تحمل حقدا لا يكاد يوازيه حقد آخر ضد المسلمين، بل وضد من هم غير كاثوليكيين حتى لو كانوا مسيحيين ينتمون لملل أخر، وربما كان حقد تلك الملكة على مسلمي الأندلس البذرة الحقيقية الأولى لكل ما جاء بعد ذلك من محاولات غزو القدس في حروب صليبية يبدو أنها لا تزال قائمة حتى هذه اللحظة. إلا أن بعض اليهود المتنصرين استطاعوا التسلل كعادتهم إلى الكنيسة الكاثوليكية، بل وتغلبوا على المسيحيين الحقيقيين ليقتربوا بالنفاق والمداهنة إلى عرش الملكين المسيحيين حتى أصبحا لا يعملان إلا بمشورة هؤلاء الذين اعتنقوا المسيحية حديثا ويريدون إثبات ولائهم للكنيسة والعرش معا، ووصل الأمر بكهنة الكنيسة من ذوي الأصول اليهودية إلى حد التضحية بالفقراء من بني جلدتهم لأن أغنياءهم ظلوا بالقرب من القصر والعرش يغرون الملكة الكاثوليكية ايزابيل بالمال الذي كانت تحتاجه في مغامراتها ضد المسلمين وغيرهم من الممالك التي كانت تقوم متفرقة على أرض شبه الجزيرة الايبيرية. التشدد الكاذب كان اليهود الذين اعتنقوا المسيحية حديثا أكثر تطرفا في دينهم الجديد إلى درجة انهم وضعوا بذرة محاكم التفتيش السيئة السمعة التي راح ضحية محاكماتها مئات الآلاف من المسيحيين أنفسهم بسبب أطماع الكنيسة في الاستيلاء على أموالهم، أو لطمع البعض في أموال جيرانه أو لمجرد الوشاية، لأن قانون محاكم التفتيش كان ينص على استيلاء الكنيسة على نصف أموال من تثبت إدانتهم والنصف الآخر لمن يشي بهم (!). استمر تاريخ العداء لليهود في إسبانيا لقرون طويلة، وكان نظام الجنرال فرانكو يتعامل معهم بقوانين محاكم التفتيش، لأن الجنرال كان يعتبرهم أخطر مرض سياسي يمكن أن يصيب أمة، اليهودية والماسونية من اعدى أعداء الجنرال، لكن هذه الكراهية لليهود انهارت بموت الجنرال وانضمام اليمين الإسباني إلى أوروبا ليغير جلده ويبدأ في تحويل أنظاره عن تاريخه القديم مع اليهود بحثا أو طمعا في طلب المغفرة باعتبارهم اليوم يمثلون الركيزة الأساسية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية المهيمنة على العالم بشكل أحادي. ما أن مات الجنرال فرانكو حتى تحول ورثته السياسيون إلى اعتناق سياسة اليمين الأوروبي الذي بدأت أفكاره تزحف باتجاه إسبانيا وتنقل إليها الإحساس بعقدة الذنب تجاه اليهود التي سادت في معظم الدول الأوروبية التي عاشت كارثة الحرب العالمية الثانية رغم أن إسبانيا لم تشارك في تلك الحرب لأنها كانت مشغولة بتضميد جراح الحرب الأهلية التي أتت على الأخضر واليابس فيها. وكان مثيرا خلال الانتخابات الإسبانية عام 1982 مشاهدة زعيم اليمين وقتها «مانويل فراجا» يعلن بمناسبة ودون مناسبة تأييده للغزو الإسرائيلي للبنان باعتباره «دفاعا عن النفس»، فيما كان المرشح الاشتراكي «فيليبي جونثالث» كان يعلن عكس ذلك على الرغم من العلاقات الوثيقة التي كانت تربطه برابين وشيمون بيريز باعتبارهما من زعماء حزب العمل أحد أحزاب الاشتراكية الدولية التي ينتمي إليها الحزب الاشتراكي الإسباني، وكان جونثالث يصر على الإشارة إلى ضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة كشرط للاعتراف الإسباني بإسرائيل. هذا التحول تجاه اليهود وإسرائيل من العداء إلى التقرب من جانب اليمين السياسي كان مثيرا في المجتمع الإسباني الذي كان لا يزال ينظر إلى الدولة الصهيونية باعتبارها دولة استعمارية معتدية، ويربط بين الصهيونية والماسونية، ويرفض أي تعامل معها في ظل احتلالها للأراضي العربية وارتكابها المجازر ضد الشعب الفلسطيني، هذا التحول اعتبره المحللون وقتها انتهازية من جانب اليمين الإسباني تحاول جذب الدعم الاميركي لضمان العودة إلى الحكم بقوة بعد تفرق أحزاب التحالف اليميني الذي حكم إسبانيا منذ انتخابات 1978 وحتى انتخابات 1982. على الرغم من الهزيمة الساحقة التي مني بها اليمين في تلك الانتخابات التي فاز فيها الحزب الاشتراكي بأغلبية مطلقة ولثلاث دورات متتالية فإن اليمين السياسي الإسباني ظل يحاول التقرب من اليهود الذين عادوا إلى إسبانيا بقوة غريبة حتى قبل الاعتراف بهم رسميا في عام 1986 تحت ضغوط أوروبية التي وضعت هذا الاعتراف إضافة إلى الانضمام إلى حلف الاطلسي من أهم شروط الانضمام للسوق الأوروبية المشتركة. انتهاز الفرصة فشل زعيم اليمين مانويل فراجا في الفوز في الانتخابات التالية جعله يتنازل عام 1989 عن زعامة اليمين لخوسيه ماريا أزنار الذي يعتبره المحللون من أكثر السياسيين اليمينيين إيمانا وتعلقا بأفكار الجنرال فرانكو، ولم يتمكن أحد من معرفة موقفه الحقيقي من إسرائيل بسبب تركيزه على الوضع الاقتصادي في انتخابات عام 1996 التي فاز بها بفارق ضئيل في عدد الأصوات، أما السياسة الخارجية فكانت تبدو بالنسبة له حقلا بعيدا لا يجب الخوض فيه. وصول خوسيه ماريا أزنار للحكم عام 1996 جاء في وقت كان فيه الاقتصاد الإسباني يتجه نحو النمو بشكل سريع، لا بسبب السياسة الجديدة التي طبقها الحزب الشعبي اليميني، ولكن لأن فترة حكمه بدأت مع بداية دورة نمو اقتصادي طبيعي جديدة كان يمكنها أن تحدث في ظل أي حزب أيا كان اتجاهه. إلا أنه مع بداية الدورة البرلمانية الثانية التي فاز بها اليمين بأغلبية مطلقة خلال انتخابات عام 2000 بدأت دورة النمو الاقتصادي تتراجع وواجه رئيس الوزراء خوسيه ماريا أزنار أزمة بالنسبة للسياسة الداخلية، مما جعله يبحث عن حقل جديد يقدم خلاله إنجازات شخصية تقنع الناخبين به كزعيم سياسي، ولم يكن أمامه سوى السياسة الخارجية التي أهملها خلال فترته الأولى، وانتهز كل الفرص المتاحة ليقدم نفسه كزعيم سياسي على المستوى الدولي، لكن تلك الفرص لم تكن كثيرة، لأن شخصية رئيس الوزراء الأسبق الاشتراكي فيليبي جونثالث كانت طاغية في هذا المجال بسبب دوره في انضمام بلاده إلى السوق الأوروبية المشتركة، ثم تزعمه حركة التوسع الأوروبية الأولى التي حولت السوق الأوروبية إلى الاتحاد الأوروبي، ورئاسته لمجموعة الأحزاب الاشتراكية الدولية بعد ذلك خلفا للزعيم الاشتراكي الألماني فيلي برانت. جاءت الفرصة لخوسيه ماريا أزنار مع وقوع أحداث 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن، فكان من أوائل من أعلنوا دعمهم اللامحدود للرئيس جورج دبليو بوش، وأعلن استعداده لتقديم الدعم العسكري لو طلب منه ذلك، لكن الرئيس الاميركي لم يقبل هذا الدعم بشكل غير مفهوم، فقد استقبلت واشنطن الزعماء الأوروبيين من توني بلير إلى شرويدر إلى شيراك وحتى بيرلسكوني، بينما انتظر رئيس الوزراء الإسباني لأكثر من شهرين ليحظى بشرف لقاء الرئيس الاميركي، مما أثار سخرية رجل الشارع الإسباني وتهكمات المحللين الصحفيين، وأصبح موضوعا شبه يومي لرسامي الكاريكاتير. فيما تراجع التأييد الفرنسي والألماني للولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب بسبب إصرارها على الانفراد بإصدار قرار ضرب العراق واحتلاله وتغيير نظامه، ظل رئيس الوزراء الإسباني وفيا لبيانه الأول، وحاول أن يكون ظلا لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير من ناحية الحجم والوفاء، بل وزايد خوسيه ماريا أزنار على شركائه الأوروبيين بتجنيد الإعلام التابع لنفوذه لتضخيم عمليات القبض على مواطنين عرب ومسلمين يقيمون على الأراضي الإسبانية، معظمهم يحمل الجنسية أي يعتبرون من مواطني إسبانيا، وفتح ملفات البوليس أمام وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي الاميركي، ووقع اتفاقات منفردة تسمح للاميركيين باستجواب أي مواطن إسباني داخل الأراضي الإسبانية نفسها، مما أدى إلى وجود تخوف شعبي من تورط إسبانيا في عداء لدول وشعوب لم تثبت علاقتها بالإرهاب، وما يمكن أن يؤثر ذلك سلبيا على المصالح الوطنية. كانت نتيجة هذا التخوف تراجع التأييد الشعبي الإسباني للولايات المتحدة، لكنه لم يوقف التأييد المطلق الذي تبديه الحكومة التي يرأسها زعيم الحزب الشعبي اليميني خوسيه ماريا أزنار، وكأنها ستارة الدخان التي تغطي على تراجع النمو الاقتصادي الذي كان رايتها وشعارها خلال الفترة البرلمانية السابقة. الحصاد المر ازدادت في الفترة الأخيرة العزلة الداخلية لحكومة خوسيه ماريا أزنار بسبب انضمامها إلى الولايات المتحدة في سياستها التي تهدف إلى تخطي المواثيق والقوانين والأعراف الدولية بإعلانها عزمها غزو العراق بحجة إسقاط نظام الرئيس صدام حسين، فكل استطلاعات الرأي تشير إلى أن الرأي العام الإسباني يدين السياسة الاميركية الرامية إلى استخدام الحرب كأداة لحل المشاكل الدولية، إضافة إلى أن الأحزاب الإسبانية الأخرى ترفض أن تسير سياسة البلاد في ركاب سياسة دولة أجنبية مخاطرة بذلك بمصالحها الوطنية. شارك رئيس الوزراء السابق فيليبي جونثالث في انتقاد سياسة الحكومة الإسبانية اليمينية بمقال نشره بإحدى الصحف الوطنية انتقد فيه تأييد خوسيه ماريا ازنار للسياسة الاميركية العدوانية التي تريد الانفراد باتخاذ القرار واستهداف الهيمنة، وأشار إلى أن السياسة الحكيمة لأي حكومة وطنية لا يجب أن تكون التبعية العمياء لأي سياسة خارجية لأي دولة مهما كانت علاقات الصداقة التي تربطها بإسبانيا، بل الحكمة يجب أن تكون في شكل نصيحة للصديق حتى لا يرتكب ما من شأنه فتح أبواب الجحيم في إشارة إلى ما يمكن أن تسفر عنه أي مغامرة عسكرية اميركية ضد العراق أو أي دولة أخرى من الدول التي تصفها واشنطن بالمارقة أو تشكل «محور الشر». ثم جاءت استقالة القائم بالأعمال بسفارة إسبانيا في بغداد «فرناندو بالديراما» من منصبه الأسبوع الماضي احتجاجا على هذه السياسة لتكشف إلى أي مدى وصل التذمر داخل المؤسسة الدبلوماسية الإسبانية ضد سياسة التبعية للولايات المتحدة التي يرى الدبلوماسي المستقيل أنها تعرض مصالح إسبانيا للخطر، فقد أشار في استقالته وتصريحات صحفية أدلى بها أنه بدأ يشعر بالقلق من تلك السياسة منذ تصريحات وزيرة خارجية بلاده «آنا بلاثيو» في المؤتمر الصحافي الذي عقدته في واشنطن عقب لقاء لها مع وزير الخارجية الاميركية كولن باول في 15 أغسطس الماضي قالت فيه «ان العالم سيكون أفضل بدون صدام حسين». وأكد الدبلوماسي الإسباني في تصريحاته أن التصريحات التي أدلت بها الوزيرة في واشنطن «تتعارض مع القانون والأعراف الدولية التي تسير عليها العلاقات بين الدول المتحضرة»، خاصة أن لبلاده سفارة مفتوحة في بغداد ودبلوماسييها معتمدون من السلطات العراقية ويحظون بمعاملة طيبة. وفسر الدبلوماسي سر تقديمه الاستقالة في هذا الوقت بالذات لأنه حسب قوله اتخذ قراره بعد أن تبين أن سياسة حكومة بلاده التي تسير في ركاب الولايات المتحدة ستجلب المخاطر خاصة بعد أن حصل الرئيس جورج بوش على تفويض الكونغرس لضرب العراق، في هذه اللحظة فهم أنه لا أمل في التراجع بعد أن ربطت الحكومة الإسبانية بسياسة الولايات المتحدة وما يعني هذا من مخاطر فقرر تبرئة نفسه من هذه السياسة بترك منصبه. استقالة القائم بالأعمال الإسباني في بغداد جاءت -حسب المراقبين- نتيجة انتهازية الحكومة اليمينية التي تحاول استخدام شماعة الإرهاب وأحداث سبتمبر لتداري فشلها في السياسة الداخلية، ويرون أن تلك الأزمة لن تكون الأزمة الأخيرة التي ستواجهها حكومة مدريد بسبب خضوعها التام للسياسة الخارجية الاميركية، فقد تصاعدت المواقف بين الحكومة والأحزاب المعارضة وعلى رأسها الحزب الاشتراكي الذين طالبوا بأن تمثل الوزيرة أمام البرلمان لتشرح الأسباب الحقيقية لاستقالة القائم بالأعمال في بغداد بدلا من استخدامها لوسائل الإعلام في تشويه شخصية الدبلوماسي المستقيل واتهامه بالخوف والجبن. المشكلة -حسب المراقبين- ليست في استخدام اليمين للانتهازية في الهروب من مواجهة المشاكل الداخلية الملحة، بل في استخدام الولايات المتحدة لهذه الانتهازية لشق الصف الأوروبي لتطويع القوة الوحيدة المؤهلة لمنافستها على قيادة العالم خلال المرحلة المقبلة. ـ كاتب مصري مقيم في أسبانيا

Email