بدون عنوان ـ تكتبها: مريم عبدالله النعيمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الثلاثاء 16 شعبان 1423 هـ الموافق 22 أكتوبر 2002 حين تقلب صفحات التاريخ، وتستحث الذاكرة لتعود بك الى حيث العظمة في الاهداف، والروعة في الاداء، ينكشف لك ماض تتمنى لو عاد بزخمه وحيويته وانسيابيته التي حقق من خلالها اعلى درجات التوحد والاتصال بين الفكر والسلوك، والمعتقد والاداء بطريقة عجزت عن مجاراتها الامم الاخرى التي راحت تتخبط في حبال الوهم، وتتجاذبها الصراعات المذهبية، والاضطرابات السياسية التي طوّحت بعروش، وأرست دعائم حكم جديد لم يكن أفضل من سابقيه، ولكنه الظلام الذي خيم على البشرية في القرون الماضية وبالتحديد في القرون الوسطى حيث كانت الحضارة الاسلامية وحدها هي التاج المتلألئ بالنور الذي أفسح المجال لرؤية جديدة يكون فيها مستقبل الانسان اكثر ازدهاراً من الازمنة التي سبقته. واللافت للنظر تلك السرعة في تنفيذ مهمات الريادة الحضارية، وذلك التوافق والانسجام مع متطلبات النهضة الشاملة دون وجود منافس او مزاحم من شأنه ان يكون محركاً خارجياً يستحث خطوات السير لهذه الامة في درب الانجاز وطريق التقدم. ومن اجل تقريب الصورة للوضع الذي كان عليه المجتمع الاسلامي مقارنة بأوضاع الغربيين نأخذ شاهداً واحداً من شواهد تفوق الحصر على عظمة تلك الروح، وعلى تألق الانسان في تلك الحقبة الفريدة من الزمن. والشاهد الذي نورده كأحد الادلة على ذلك العصر المضيء هو الوزير الاديب العالم الصاحب بن عباد الذي اوردت عنه كتب التراجم والسير ان نوحاً بن منصور الساماني صاحب خراسان ارسل اليه يسأله القدوم عليه، فرد عليه قائلاً: «عندي من كتب العلم ما تحمل على اربعمئة جمل او اكثر» كما اثر عنه قوله «احتاج الى ستين جملا انقل عليها كتب اللغة التي عندي». وحتى يستطيع القارئ تصور هذه الثروة العلمية التي لا تقدر بمال استشهد بمقولة (ديورانت) في كتابه الشهير الذي نقله الى العربية محمد بدران، حيث قال: «كان يملك ـ اي الصاحب بن عباد ـ في القرن العاشر الميلادي مجموعة من الكتب، كانت تقدر بما يعادل كل مكتبات اوروبا مجتمعة». ومن الشواهد والادلة على المسافة الهائلة التي كانت تفصل بين الحضارة الاسلامية وبين واقع الحركة العلمية في الغرب ما ذكره الدكتور زكي محسن من ان الجامعات الاوروبية (اكسفورد وكمبردج) لم تعرف نظام المكتبات الا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، حتى ان هذا العصر يسمى في اوروبا (عصر انشاء المكتبات). اما قبل ذلك فقد كانت توجد المخطوطات في بعض الكنائس في ادراج مثبتة بسلاسل خشية مداهمة اللصوص. وكما سبق انشاء المكتبات في العالم العربي والاسلامي حركة النهضة الاوروبية، فإنه سبق كذلك اكتشاف العالم الجديد (الاميركتين)حيث انشئت مكتبة هارفاردويل بالولايات المتحدة 1963م متأخرة بذلك عشرات القرون عن العالم الاسلامي الذي بدأ نظام المكتبات به منذ عهد عبدالملك بن مروان، وبلغ أوجه في عهد الدولة العباسية، وخاصة في عهدي الرشيد والمأمون. وقد يختصر مشوار التقصي والبحث في موضوع عرض المفارقة بين واقع الحضارة الاسلامية وما يقابلها في الحضارة الغربية اثناء العصور الوسطى ان نستدعي هذا المشهد المأساوي ونعيد عرضه من جديد كشاهد على الاغراق في البربرية والجهل التي وصل اليها الغربيون. اذ تذكر كتب التاريخ ان الكاردينال (شيمتر) امر باحراق ثمانين ألف كتاب في ساحات غرناطة، وظل الحقد الاسود يلاحقهم حتى أفنوا حسب المؤرخ (ربلس) الف الف وخمسة آلاف مجلد كلها خطتها اقلام المسلمين (مليون وخمسة آلاف). وفي شاهد اخر على مدى الجهل المطبق الذي خيّم على الغربيين في ذلك العصر يذكر فيصل عبدالله العسكري في كتابه القيم (الكتاب في التراث العربي) ما فعله الغربيون سنة 1671 في السفن الثلاث التي كانت متجهة الى سلطان مراكش واستولى عليها البرابرة الافرنج ـ بحسب تعبير العرب في ذلك الوقت ـ والقوا بحمولتها من الكتب في قصر (الاسكوريال) لتلعب بها النيران وتأكل ثلاثة ارباعها، ولم يفيقوا من حماقتهم الا حين لم يتبق الا الربع الاخير منها حيث توقفوا عن اكمال جريمتهم وفوضوا الى ميخائيل الطرابلسي ترتيبها وكتابة اسمائها فأحصى لهم اسماء 1851 كتاباً. هذا ـ ايها السادة والسيدات ـ نموذج مختصر على البدائية والتخلف التي كان عليها من تصالحوا مع العلم في نهاية المطاف، وتبرأوا من ذلك التراث الاسود. لتنقلب الصورة من جديد، ولكن في الاتجاه المعاكس.

Email