استراحة البيان ـ أزمة أمير الشعراء ـ يكتبها اليوم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاثنين 15 شعبان 1423 هـ الموافق 21 أكتوبر 2002 أمير الشعراء يواجه أزمة، وتوجه اليه في هذه الأيام عاصفة عاتية من التعديل والهجوم الذي يصل الى حد التجريح. أصل الحكاية أن الشاعر «أميري بركة»، يكتبونها باركا في بعض الأحيان، لم يطق صبرا بل أطلق قلمه، وربما لسانه، في قصيدة عصماء بالانجليزية هجا فيها التصرفات التي رآها غير انسانية وظالمة وغاشمة لحكومة شارون في اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني وبعدها قامت الدنيا في أميركا ولم تقعد حتى كتابة هذه السطور. هل السيد «أميري بركة» عمد الى اتخاذ هذا الاسم الجديد بأصدائه المشرقية رغم أن اسمه القديم كان كورواجونز وهو يكتب المسرحية والقصيدة ويستند الى تاريخ حافل طويل من النضال من أجل حقوق الشعوب والأفراد منذ شبابه في عقد الستينيات هو شاعر مطبوع - بالانجليزية طبعا - بل هو شاعر كبير وإلا لما نصبوه في ولاية نيوجيرسي المتاخمة لنيويورك في منصب أمير شعراء الولاية (بويت لورييت) وسيد مبدعي القريض بين ربوعها.. وقد كان يمكن لأمير شعراء نيوجيرسي أن ينعم بالمكانة السابغة واللقب الفخيم لولا أن نفسه الشاعرة وذائقته الفنية، السوبر - حساسة تعاطفت مع المظلومين والمكلومين في الأرض الفلسطينية المحتلة وهو أمر لم يغتفره له، ولن يفعل اللوبي المؤيد في أميركا لاسرائيل وسياساتها. هنالك ارتفعت أصوات تطالبه بالتنحي أو بالأدق التنازل عن لقب الامارة الشعرية، وتتهمه أنه لا يتحرى الحقيقة ولا يمحص الوقائع بل انه يستقي أخباره ومعلوماته من شبكة الانترنت ومن صالونات الثرثرة الفارغة على نحو ما كتب بعض قراء نيويورك تايمز في معرض التنديد بالسيد أمير الشعراء. وبلغ أمر قراء آخرين الى حد المطالبة بالغاء منصب أمير الشعراء من أساسه.. وهم في هذا يتذرعون، بالأدق يتمحكون، في حكاية دافع الضرائب الأميركي وأين تصرف وفي أي قنوات توجه المكوس التي يدفعها للحكومة.. الخ. وللعلم يتقاضى أمير الشعراء في ولاية نيوجيرسي مرتبا أو مكافأة تبلغ عشرة آلاف دولار سنويا وهو مبلغ ليس بالطائل وربما يكتفي سيادته بالمكانة واللقب.. عملا بالمأثور العربي الشهير الذي يقول: ان الصيت أولى من الغنى. مع ذلك، وبصرف النظر عن عواصف الانتقاد ومع التقدير لشجاعة الشاعر «أميري بركة» وصراحته - فقد أسعدنا - من ناحية المبدأ على الأقل - أن نعرف أن في ولايات أميركا - رغم غلبة النزعة المادية على مجتمعها - من لا يزال يقدر الشعر دع عنك أن يقيم لهذا الفن الجميل المنظوم والمسبوك بلاطا وصولجانا وإمارة وأميرا للشعراء. نعرف أيضا أن انجلترا فيها منصب أمير الشعر وهو أقرب ما يكون الى شاعر البلاط أو شاعر الملكة أو الملك حسب نوعية جنس الحاكم في قصر بكنجهام.. ونعرف أيضا أن هؤلاء الشعراء.. الرسميين - البلاطيين كما قد نسميهم- من كانوا من شعراء الدرجة الثانية وربما الثالثة.. وإنما رفعتهم الى موقع شاعر البلاط اما الزلفى الى ساكن بكنجهام أو سابق خدماته للدولة أو امتداد الأجل في الحياة وأيضا في معالجة صناعة الشعر.. ومع ذلك فقد كان من هذا الصنف من شعراء بلاط الانجليز مبدعون كبار وشعراء عظام نذكر منهم على سبيل المثال ويليام وردزورث (1770 ـ 1850) وهو إمام الشعراء الرومانسيين ويعد ديوانه الذي أصدره مشاركة مع زميله الشاعر الكبير كولردج (1772 ـ 1834) انجيلا للشعر الرومانسي في أدب الانجليز الحديث بمعنى أنه كان ملهما لكوكبة الرومانسيين المشاهير مثل لورد بايرون وبيرسي شيللي وجون كتيسي وثلاثتهم انصهرت اعوادهم الغضة فكان أن رحلوا عن الدنيا في شرخ الشباب. وقد ارتقى وردزورث الى امارة شعراء الانجليز وكان عمره 63 سنة في حين أن شاعرنا الكبير أحمد شوقي بويع أميرا للشعراء العربية الشريفة عام 1927 حين كان عمره 59 سنة. ونستطيع أن نقول ان الحالة الشعرية العربية كانت أكرم وأفضل من نظيرتها عند أصدقائنا الانجليز.. في لندن صدرت الارادة الملكية بتعيين شاعر البلاط أو أمير شعراء البلاد.. وفي القاهرة كانت المبايعة شعبية تنادت اليها عام 1927 فعاليات المجتمع المدني بتعابير زماننا بغير تداخل من جانب السلطات أو الحكومات وجاءت الى العاصمة وقتها وفود من شعراء العروبة وأدبائها ومبدعيها وسدنة تراثها وحارسي لغتها.. جاءت لتبايع أحمد شوقي وقد بلغ القمة من ابداعاته الشعرية التي كان قد بدأها منذ تسعينيات القرن التاسع عشر وربما قبل ذلك.. ابتداء من المقطوعات الى القصائد الملحمية الطوال الى أن وصل أوج النضج حين فتح بابا مبتكرا هو المسرح الشعري في آداب العرب.. لا عجب أن يسجل الشاعر حافظ ابراهيم وكان صنو شوقي ووصيفه هذه المناسبة في قصيدته الشهيرة التي تقول افتتاحيتها: أمير القوافي قد أتيت مبايعا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي لم تفت هذه المناسبة المشهودة مبدعي الخليج العربي.. فقد ضم المحتفلون بشوقي وفدا من البحرين الشقيقة جاء مبايعا بامارة الشعر وحاملا على سبيل الهدية نخلة من الذهب تتدلى من فروعها تمور من الياقوت. وربما كان احتفال سنة 27 هذا هو الفريد من نوعه في مجال الشعر في الزمان العربي الحديث.. فقد رأى نفر من المثقفين أن يعاد تنصيب أمير لشعراء العرب بعد أن رحل شوقي عام 1932.. وكان ذلك - على ما تعي الذاكرة - في عقد الأربعينيات.. يومها أقاموا احتفالا آخر في أكبر مسارح العاصمة المصرية للمناداة بعقد امارة الشعر لصالح الأستاذ عباس العقاد! ورغم أن طه حسين بجلالة قدره خطب معززا هذا الاختيار إلا أن المسألة طويت على ما يبدو في طي النسيان أو أن عناصر وأذواقا شتى لم تستسغ حكاية العقاد أميرا للشعراء.. صحيح أن الأستاذ العقاد كان يعالج صناعة الشعر وكان ينادي بتجديد في أغراضه لكي ينزل من سماء شعر المناسبات والصالونات ومحافل الخطابة الى حيث يعانق الشعر أغراض الحياة اليومية.. إلا أن العقاد الناقد المبشر بالجديد كانت قامته أعلى من العقاد الشاعر الذي كان يعاني التجربة فتأتي قصائده - باستثناء حالات خاصة جدا - أقرب الى معادلة الفيزياء أو مسائل الرياضيات. أراد الأستاذ العقاد أن يجدد في أغراض الشعر، أي نعم، فأصدر ديوانا بعنوان «عابر سبيل» وفيه قصيدة في رثاء الكلب بيجو وفيه قصيدة أخرى بعنوان الكواء (المكوجي) في ليلة العيد يقول مطلعها على ما تدرك ذاكرتنا: ـ لا تنم، لا تنم إنهم ساهرون.. الخ لهذا لم يحتفل جيلي بشعر العقاد قدر احتفالنا بنثر العقاد ناقدا ومفكرا ومؤرخا ومتأملا ورغم أن العبد الفقير كان يحمد مولاه على ذاكرة كانت - نؤكد كانت - تستوعب الكثير، ورغم أن بلغت محفوظاتنا من أشعار العرب الكبار.. المتنبي وشوقي من الكلاسيكيين الى ناجي والسياب ونازك الملائكة ثم نزار من المحدثين - إلا أن ذاكرتنا أبت واستكبرت أن تحفظ شيئا من شعر الأستاذ العقاد.. اللهم إلا بيتين لا ثالث لهما مازالا عالقين بها ربما بحكم المنطق الذي يدوران من حوله وهما: عدل الموازين ظلم حين ننصبها على المساواة بين الحُر والدونِ ما فرقْت كفة الميزان أو عدلت بين الحليّ وأحجار الطواحين يريد الشاعر أن ينبه الى أن المساواة المطلقة وعدم مراعاة الفروق والمواهب الفردية، تكاد ترادف الظلم بعينه.. ألم أقل لك أن العم عباس العقاد كان يقول شعرا أقرب الى معادلات الكيمياء؟!

Email