بعد دعوة هيكل لشرعية جديدة، هل هي مسئولية السلطة وحدها ؟! ـ بقلم: جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاحد 14 شعبان 1423 هـ الموافق 20 أكتوبر 2002 عقب محاضرته المهمة التي ألقاها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في الجامعة الأميركية بالقاهرة، والتي دعا فيها لتحديد كيفية انتقال السلطة في مصر بعد انتهاء الولاية الحالية للرئيس مبارك، مشددا على أنه قد آن الأوان للانتقال من شرعية نظام الرجل الواحد إلى الشرعية الدستورية القانونية.. بدأ في الاجابة عن الاسئلة التي تلقاها من القاعة، ووقف أحد السائلين ليقول إنه يقضي معظم ساعات يومه يتابع أحداث العالم.. يقرأ ويشاهد ويكتب، ومع ذلك فهو يتساءل: هل بقيت للكلمة أي قيمة؟! وبالطبع رد الأستاذ هيكل مشددا على أن للكلمة قيمتها في كل الظروف، ثم إنها السلاح الوحيد الباقي في أيدينا من أجل التغيير المطلوب. ومع ذلك يبقى للتساؤل مشروعيته، ويبقى الوقوف عنده ضروريا إذا شئنا الاقتراب الجاد من القضايا المهمة التي أثارها الأستاذ هيكل في محاضرته التي أرجو أن تحرك الركود المميت الذي يسيطر على الحياة السياسية في مصر منذ سنوات. قبل هذه السنوات من الركود المميت كان المثقفون المصريون قد أدركوا أن طريق الخلاص لابد أن يبدأ من إصلاح دستوري وسياسي شامل. وأعدوا بالفعل مشروعا طالبوا فيه بالتحول من النظام الرئاسي الى النظام البرلماني، حيث تكون رئاسة الدولة منصبا شرفيا، وتكون السلطة الفعلية بيد الحكومة التي يشكلها الحزب أو الائتلاف الحزبي الذي يملك الغالبية البرلمانية. قد حظى المشروع بتأييد معظم القوى السياسية الفاعلة التي تبنت المشروع في البداية، ثم اسقطته من حساباتها بعد ذلك بفعل الخلافات الحزبية والمنافسات الانتخابية أولا، ثم تدهور الحياة السياسية بعد ذلك. الحاجة لتغيير جذري وإذا كانت محاضرات الأستاذ هيكل تفتح الباب مجددا لمناقشة القضية ليس فقط من باب الحاجة لإصلاح سياسي، بل أيضا الحاجة لتغيير جذري يصاحب انتقال السلطة بعد نهاية الولاية الحالية للرئيس مبارك.. ليس الى حكم فردي آخر بل الى شرعية جديدة مختلفة ينبغي أن يدور الحوار حولها من الآن.. اذا كان الامر كذلك وكان الحوار ضرورة حياة للنظام السياسي في مصر، فإن السؤال الذي تلقاه الاستاذ هيكل في نهاية محاضرته يبقى ضروريا لأن الحوار المطلوب لن تكون له قيمة الا اذا استعادت الكلمة قيمتها ودورها. ولكن في البداية.. كيف وصل الأمر بشباب في مقتبل العمر ولهم اهتمامهم بأحوال الوطن والأمة أن يتساءلوا عن قيمة الكلمة في إحداث التغيير؟ ومن المسئول عن هذه الكارثة التي تعني أن يفقد الشباب القدرة على الحلم، والرغبة في تحويل هذه الأحلام الى واقع، واليقين بأن هذا ممكن بالحوار وبالعمل السياسي وبالنضال في مجالات الفكر والثقافة، وبتنشيط كل مؤسسات العمل المدني؟ وهل يفهم الجميع أن الشباب إذا فقد الثقة في قدرة الكلمة على الفعل، فإن الطريق الآخر هو الكارثة، لأن البديل لن يكون الا العنف بكل آثاره المدمرة؟ في محاضرته المهمة اشار الأستاذ هيكل الى أن الرئيس السادات حينما خلف الزعيم الراحل عبدالناصر في الحكم أعلن بنفسه (أنه يسير على طريق عبدالناصر) ولكن ماحدث بعد ذلك (وخاصة بعد أكتوبر 73) أنه وهو يحاول تأسيس شرعية جديدة له سار في طريق آخر، ومع ذلك كان يصر على أنه على طريق الزعيم الراحل حتى وهو يتبنى سياسة الانفتاح الاقتصادي بالصورة المشوهة التي تمت بها، وحتى وهو يعطي 99 من أوراق اللعبة للولايات المتحدة الأميركية، وحتى وهو يذهب في طريق الصلح المنفرد مع اسرائيل الذي رفضه عبدالناصر رفضا قاطعا. وربما كان أفضل تعبير عن ذلك تلك (النكتة) الشهيرة التي انتشرت في هذه الفترة، والتي تقول إن السادات استقل سيارته ليتجول في القاهرة، وبعد قليل سأله السائق: إلى أين ياسيدي، إلى أي اتجاه نسير؟ وكان رد السادات: إعط اشارة بأنك ستتجه إلى اليسار، ثم اتجه إلى اليمين.. وهكذا كان. كانت النكتة تعبيرا شديد الذكاء على أن الناس يفهمون مايجري، ويدركون أن الحلم يسير في طريق آخر، ويحتارون في سبب إصراره على إنكار ذلك وتمسكه بالشرعية القديمة ستارا للسياسات الجديدة. واستمر الوضع بعد ذلك على نفس المنهج، لتبتعد المسافة بين السياسات المعلنة والواقع الحقيقي. فالدستور يتحدث عن حق العمل وحق التعليم المجاني لكل المواطنين.. والواقع يقول إن نسبة البطالة بلغت حد الخطر والدروس الخصوصية تلتهم معظم دخل الأسرة المصرية! والاعلام الرسمي يتحدث عن نجاح السياسات الاقتصادية بينما المواطن العادي يحس بوطأة الحياة والخبراء يعرفون مقدار الجهد المطلوب للخروج من الأزمة! والحديث عن ازدهار الديمقراطية لا ينقطع بينما الحياة السياسية تعيش حالة من الضمور التي كادت تصل إلى الموت التام! والحديث عن النزاهة والشفافية يصطدم بالكشف عن أوسع عملية نهب للبنوك المصرية من جانب الأفاقين ممن يسمون أنفسهم بـ (رجال الأعمال)! وأرصفة الشوارع مملوءة بآلاف الكتب عن عذاب القبر، والجهاد لا ينقطع من أجل اطلاق اللحى ونشر الحجاب أو النقاب بينما الفساد لم يكن يوما بمثل هذا الانتشار! على الجانب الآخر لا تبدو الصورة أفضل في أحزاب المعارضة التي تحولت الى مجرد أندية سياسية تحت الحصار تصدر صحفا قد يكون صوتها عاليا ولكن الحركة - لأسباب كثيرة - قاصرة، والتأثير الحقيقي ينحسر، والعلاقة بالشارع مقطوعة أو تكاد. مواجهة التحديات وتزداد الأزمة مع واقع ثقافي مرتبك، تغيب فيه (البوصلة) التي تهدي الجميع، ويرتبك فيه اليسار بحكم تطورات دولية وانقلابات داخلية، ويواجه القوميون فيه واقعا مريرا بعد كارثة الحرب العراقية الكويتية، ويستنزف فيه الجميع في مواجهة محاولات فرض التطبيع مع العدو الاسرائيلي، وفي حرب طاحنة ضد الارهاب الذي نشأ وترعرع برعاية أميركية وجرى تصديره، بعد انتهاء مهمته في افغانستان - الى البلاد العربية والاسلامية ليحاول تكرار تجربته المأساوية في الجزائر - ثم في محاولة تركيع مصر ومحاصرتها واغراقها في همومها الداخلية حتى يتم لأميركا واسرائيل ترتيب الأمور في المنطقة واعادة رسم خريطتها وفقا لمصالحها. وفي ظل هذه الأوضاع ومع صعوبتها على الجميع، لم تتوقف الدعوة للتغيير. ليس فقط لوقف التدهور وتلبية احتياجات المجتمع الاقتصادية والسياسية والثقافية، وانما أيضا لمواجهة ظروف دولية عاصفة وتحديات اقليمية تزداد شراستها، وخطر اسرائيلي يمثل تهديدا لأمن مصر وليس فقط لالتزاماتها القوية. وتوالت الفرص المتاحة للتغيير، وتوالى اهدارها بصورة مأساوية شملت كل نواحي الحياة.. فالمسئولون لا يتركون مواقعهم مهما فعلوا أو لم يفعلوا، والوجوه هي هي.. في السياسة والثقافة والاقتصاد، وإذا كانت الحكومة تعتبر التغيير - في أحسن الظروف - من الأمور المكروهة التي لا تلجأ اليها إلا مضطرة، فإن المعارضين يؤمنون بأن الناس على دين ملوكهم.. وهكذا تجمدت الأمور حتى ولو بالمخالفة للقانون كما يحدث في المؤسسات الصحفية الحكومية (الشهيرة بالقومية) والتي كان القانون يمنع من جاوز سن الستين من تولي رئاسة التحرير فيها، فتم تعديل القانون ليبقى رؤساء التحرير حتى الخامسة والستين، ثم تم إهمال القانون ليبقى رؤساء التحرير الى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.. والنتيجة أن جيلين من الصحفيين على الأقل تم حصار الموهوبين فيهم، وأن المؤسسات الصحفية تخضع لنفس القيادات منذ مايقرب من ربع قرن.. وأن نفس الصحف الحكومية لا تخلو يوميا من دعوات حماسية للتغيير! ومايحدث هنا.. يحدث في كل المؤسسات ليسد الطريق على أجيال شابة تسعى لأن تأخذ فرصتها للإبداع، وأن يأخذ الوطن فرصته للإصلاح. غياب الآليات والنتيجة المنطقية لكل ذلك أن نصل الى الوضع الحالي.. حيث الكل يدرك أن التغيير أصبح ضرورة حياة، ومع ذلك فآليات التغيير غائبة أو مغيبة.. أقصد التغيير الحقيقي الذي يعيد لمصر قدرتها على الانطلاق ويبعث الحياة والحيوية في كل المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، ويؤهل مصر لكي تلعب الدور الذي لابد أن تلعبه اذا كان للأمة العربية أن تنهض من كبوتها وأن تواجه التحديات الهائلة التي تفرض نفسها في مطلع قرن يتغير فيه العالم كله وتحاول فيه أميركا أن تفرض هيمنتها الكاملة على هذا العالم، وأن تمنح اسرائيل من وسائل القوة الاقتصادية والعسكرية مايمكنها من اخضاع العرب وانهاء دورهم وتحويلهم الى مجرد بقعة لانتاج البترول وتسليمه لأميركا بالسعر الذي تريده والشروط التي تفرضها. وفي غيبة آليات التغيير الطبيعية يصبح منطقيا أن يتوجه الأستاذ هيكل بدعوته الى الرئاسة المصرية لكي تقود بنفسها عملية التغيير الأساسي ليس لترتيب أمور الخلافة بعد ثلاث سنوات فقط، وإنما لتغيير النظام نفسه بحيث يتحول من شرعية حكم الرجل الواحد إلى الشرعية الدستورية القانونية. وفي غيبة آليات التغيير الطبيعية يصبح طبيعيا أن يثور التساؤل الذي طرح على الأستاذ هيكل في نفس المحاضرة عن القيمة التي بقيت للكلمة في إحداث التغيير. هذا التساؤل الذي يجسد عمق الأزمة التي يعيشها جيل جديد غاب عنه الحوار المسئول، ووجد نفسه بعيدا عن المشاركة الجادة في صنع المستقبل، وأدرك البون الشاسع بين مايقال ومايجري على الساحة السياسية والثقافية، وأدرك في الوقت نفسه ان التغيير اذا لم يتم بالحوار المسئول بين كل القوى السياسية والاجتماعية، فسوف يفتح ذلك أبوابا للعنف بكل مايمثله من مخاطر على حاضر الأمة ومستقبلها. مسئولية الجميع وأظن أن هذه هي اللحظة المناسبة لكي يخرج المثقفون من حالة الانطواء على النفس، وألا يكتفوا بانتظار المجهول سواء أكان اصلاحاً من فوق أو عنفا من تحت. بل يواصلوا عملهم الذي بدأوه، ورحلتهم التي طالت بحثا عن النهضة التي تعددت المحاولات لبنائها، وتعددت الحروب من الداخل والخارج لإجهاضها.. من تجربة محمد علي إلى تجربة عبدالناصر. إن الحوار المسئول حول الاصلاح المطلوب بين المثقفين المصريين بكل تياراتهم الفكرية والسياسية لن يبدأ من الصفر.. فوراءه تجارب سنوات طويلة ومعارك طاحنة وتضحيات غالية ورؤى تملك مساحة عريضة من الاتفاق جسدت نفسها في مشروع الاصلاح الدستوري الذي يمكن البناء من جديد عليه والحوار حوله. إن الحوار المسئول بين المثقفين سوف يكون حافزا أساسيا لكي تقدم السلطة أيضا مشروعها، وسوف يكون أيضا اجابة فعلية على التساؤل الذي ثار عن قيمة الكلمة في احداث التغيير. اجابة تقول انها مازالت قادرة رغم كل ما لحقها من تشويه على أن تتحول الى فعل، وان تبني جسورا من الحوار وأن تهدم كل الطرق التي تؤدي الى أن يكون العنف هو الحل! ـ نائب رئيس تحرير «أخبار اليوم» المصرية

Email