سكان البيت الأبيض نموذج الفساد لأصدقائهم في أميركا اللاتينية ـ بقلم: د. طلعت شاهين

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجمعة 12 شعبان 1423 هـ الموافق 18 أكتوبر 2002 في الوقت الذي تحاول فيه إدارة الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش ونائبه ديك تشيني جذب الأنظار بعيدا عن المشاكل الداخلية، وبشكل خاص الاقتصادية، بإشعال الحروب هنا وهناك، وفي مقدمتها الإصرار على عدم إعادة المفتشين الدوليين إلى العراق ما لم يصدر مجلس الأمن الدولي قرارا يمنح الولايات المتحدة الحق المنفرد في غزو العراق بحجة اسقاط نظام صدام حسين. كتب أستاذ الاقتصاد الاميركي «جوزيف ستيجلتز» الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 2001 مقالا حول الأوضاع الاقتصادية في بلاده منطلقا من التساؤل حول المشاكل التي يعانيها هذا الاقتصاد ليخلص إلى أن مشاكل هذا الاقتصاد بدأت منذ فترة رئاسة الرئيس السابق والجمهوري أيضا رونالد ريجان الذي ضحى بالفقراء من أجل مزيد من الثراء للأغنياء ومزيد من الفقر للفقراء، بخفض الضرائب على الممتلكات الكبرى، وتقليص حجم إنفاق الحكومة على الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة، وأن سياسة جورج بوش الحالية استمرار لتلك السياسة، على الرغم من نجاح الرئيس الديمقراطي السابق بيل كلينتون في تخطيها طوال فترة رئاسته، وصل الكاتب في نهاية مقاله إلى نتيجة تؤكد أن الحديث عن الحرب ضد العراق ليست سوى ستار دخان للتغطية على فشل الرئيس جورج دبليو بوش وفريقه العامل معه في إدارة الشئون الداخلية للبلاد، وفي مقدمتها الاقتصاد لإصرارهم على تطبيق سياسة ريجان الفاشلة. هناك كتابات أخرى أيضا لمتخصصين اميركيين وغربيين تؤكد أن الحرب ضد العراق لو وقعت فإنها لن تكون الأخيرة بل ستكون حلقة في سلسلة النيران التي ينوي أن يشعلها الرئيس جورج بوش من حوله، بل ستتواصل سلسلة من مغامراته العسكرية الواحدة تلو الأخرى، وقد تنتهي بسقوطه في الانتخابات القادمة، إذا فشل في إنهاء هذه المغامرات أو سقط خلالها ضحايا من الجنود الاميركيين. أما احتمال أن تؤدي هذه الحروب إلى بقائه في الحكم لفترة ثانية فانه مرتبط بشرط نجاحه في الإبقاء على الشعب الاميركي مشغولا بتلك المغامرات، وهذا لن يحدث إلا إذا نجح الجيش الاميركي في تحقيق انتصارات سريعة بأقل التكاليف البشرية، أما التكاليف المادية فلا شك أن الشركات الاميركية المستفيدة من تلك المغامرات ستتولى تغطية جزء منها، والجزء الآخر يمكن تغطيته بالبترول الذي تحصل عليه الولايات المتحدة في حالة نجاحها في احتلال العراق، وتمكنها من السيطرة على أي محاولات تمرد داخلي رافضة لهذا الوجود، وهو الأمر الذي يشكك فيه الكثير من المراقبين السياسيين والعسكريين الغربيين، بل والاميركيين أنفسهم، ومن بينهم عسكريون لهم خبرة طويلة في مجال الحرب الحديثة، ودليلهم على ذلك الحالة الراهنة في أفغانستان التي تكاد تكون خالية من السكان، ومع ذلك لم تنجح القوات الاميركية والبريطانية بكل ما تملكه من أسلحة حديثة من السيطرة عليها حتى الآن، على الرغم من مرور ما يقرب على العام منذ بدء غزوها في إطار «عقيدة» الانتقام التي تملكت جورج دبليو بوش وفريقه لإبعاد الأنظار عن فشل الأجهزة الأمنية الاميركية في حماية مواطنيها داخل الولايات المتحدة نفسها. وليضمن الرئيس جورج دبليو بوش توريط دول أخرى معه حتى لا يتحمل وحده نتائج أي فشل أعلن صراحة قبل أسابيع قليلة أن من يشاركه في غزو العراق سيستفيد من البترول العراقي بعد السيطرة عليه وضخه، وهو ما اعتبرته الأوساط السياسية العالمية والغربية بشكل خاص «رشوة» صريحة من جانب بوش لحكومات أوروبية كفرنسا وألمانيا للتخلي عن معارضتهما إنهاء النزاع مع العراق عسكريا، لذلك يرون أن الإصرار على تلك الحرب هو لإخفاء شئ ما. معظم تلك الكتابات والتحليلات تشير صراحة إلى فساد هذه الإدارة، وأن الإصرار على غزو العراق أو افتعال مشاكل دولية وتسخينها هو لإخفاء فسادها وفساد رئيسها عن أعين شعبها بإعلان الحرب. قد تنجح هذه الحرب في إخفاء فساد الإدارة الاميركية الحالية عن الحوار الشعبي مؤقتا، وتمنح الرئيس جورج دبليو بوش وفريقه فسحة من الوقت، إلا أن هذه الحرب والحوارات الدائرة حولها لم ولن تنجح في تزيين صورة الولايات المتحدة في مناطق نفوذها التي تحتاج إلى الحفاظ عليها لتبقى هيمنتها، بل انشغال هذه الإدارة بإخفاء فسادها بحديثها الدائم عن الحرب، سواء كانت ضد الإرهاب أم ضد «محور الشر»، منح شعوب الدول الخاضعة للنفوذ الاميركي لسنوات طويلة الفرصة لطرح فساد مسئوليها التابعين للولايات المتحدة لكشف زيف السياسات الاميركية في تلك المناطق. من هنا بدأت سلسلة من المحاكمات لحكام سابقين وصلوا إلى السلطة في بلادهم بفضل دعم واشنطون المباشر لسياساتهم، بل وتدخلها بكل الوسائل «غير المشروعة» من اجل فوزهم بمناصبهم باعتبارهم يشكلون جزءا من سياسات واشنطون الخارجية، وبالتالي النموذج الذي يحتذى لمحاربة النشاط اليساري الذي لم ينحسر بسقوط الاتحاد السوفييتي، وهذه المحاكمات تمت بعيدا عن ضغوط واشنطون التي أدى انشغالها بإخفاء فساد رئيسها ونائبه ديك تشيني إلى تجاهلها إنقاذ رقاب عملائها السابقين من السجن والمحاكمة، وبالتالي تم كشف المستور في علاقات واشنطن بشخصيات مثل كارلوس منعم رئيس الأرجنتين السابق، والمسئول الأول عما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية هناك التي وضعت البلاد بأسرها في حالة من الإفلاس الكامل الذي أوقف الحياة الاقتصادية تماما، فتحولت الأرجنتين من دولة مصدرة للحوم والغلال ومستقبلة للمهاجرين إلى دولة لا تجد قوت شعبها وطاردة لأبنائها. عندما وصل كارلوس منعم إلى رئاسة الأرجنتين روجت وسائل الإعلام الاميركية والتابعة لواشنطن له كنموذج للسياسي الجديد في العهد الديمقراطي المرسوم لاميركا اللاتينية، بل واعتبرته الخارجية الاميركية أحد ابرز تابعيها في منطقة جنوب القارة، بعد أن فاحت روائح الجرائم التي ارتكبتها المخابرات المركزية الاميركية خلال عقود طويلة في التشيلي بعد أن تم تقديم جنرالها السابق «اوغوستو بينتوتشيه» للمحاكمة، والمطالبة بمحاكمة هنري كسينجر باعتباره المخطط للانقلاب الذي قاده بينوتشيه في التشيلي عام 1973، والشريك في الجرائم التي تم ارتكابها بعد إسقاط الحكومة الوطنية الشرعية هناك. الطريف أن الاتهامات الموجهة لكارلوس منعم كانت تعتمد على وثائق سرية للمخابرات الاميركية حول صفقات بيع سلاح لكرواتيا لعب فيها الرئيس الأرجنتيني دور الوسيط وحصل من خلالها على عمولات ضخمة تصل إلى 60 في المائة من قيمة الصفقات نفسها. لم يكن كارلوس منعم سوى النموذج للعميل الاميركي الذي سقط بسبب انشغال جورج دبليو بوش بمغامراته، وان كان مثله في مختلف بلاد العالم الكثير، ولا يمكن حصرهم، وربما كان انشغال البيت الأبيض بالبحث عن سحابات دخان لإسدال ستار على فساد ساكنيه الفرصة الأنسب لكشف تابعين آخرين. لكن المفاجأة التي حققتها نيكارجوا الأسبوع الماضي برفع الحصانة عن رئيسها السابق «ارنولدو أليمان» الذي تولى رئاسة نيكاراجوا في الفترة من 1997 إلى 2000 بدعم مباشر من واشنطن، بل قدمته الولايات المتحدة ليكون بديلا عن الرئيس اليساري دانييل اورتيجا العدو رقم واحد للبيت الأبيض في كل اميركا اللاتينية، بالطبع بعد الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، مستغلة في ذلك انشغال سكان البيت الأبيض بمشاكلهم الخاصة. لم تكن هذه المرة الأولى التي يواجه فيها الرئيس النيكاراجوي السابق مثل هذه الاتهامات، بل واجه تلك الاتهامات منذ أن كان في الرئاسة، إلا أن الولايات المتحدة كانت تدعمه دائما على الرغم من علمها بصحة هذه الاتهامات، لأنه كان رجلها المدلل، وربما لأن إدارة الرئيس بيل كلينتون لم تكن مشغولة كثيرا بموضوعات مهمة غير موضوع «مونيكا» وهي قضية جانبية في السياسة الاميركية، وعلاقتها بالسياسة الداخلية أكبر، لذلك لم يكن لها تأثير كبير على السياسة الخارجية، أما هذه المرة فإدارة بوش مشغولة بفسادها وعجزها عن إدارة أمورها الخارجية، فتركت رجالها في اميركا اللاتينية يتساقطون واحدا بعد الآخر، بل هناك من يرى أن سياسة «إسقاط» عملاء اميركا في الخارج تدخل ضمن مخطط إدارة الرئيس جورج بوش، ولا يستبعدون أن تطبق سياسة إسقاط «الأصدقاء» في الشرق الأوسط أيضا كجزء من تقديم خريطة جديدة تقنع الشعب الاميركي بمدى فاعلية هذه الإدارة خارجيا فيتغاضون عن الأخطاء الداخلية. الاتهامات الموجهة هذه المرة للرئيس النيكاراجوي السابق ورجل اميركا خلال حربها ضد جبهة الساندنيست اليسارية لا تقبل مجالا للتشكيك، وليست نتيجة تآمر اليسار أو أعضاء البرلمان من حركة الساندنيست القدامى، لأن أعضاء حزب الرئيس السابق نفسه تخلوا عنه وهربوا من مواجهة اتهامات الفساد وتركوه يواجه مصيره وحده، والأعضاء الثلاثة من حزبه الذين حضروا جلسة التصويت على عزل الرئيس السابق من منصبه الحالي كرئيس للبرلمان، ورفع الحصانة عنه، وتقديمه لمحاكمته محاكمة جنائية صوتوا إلى جانب المعارضة مما سهل الأمر على البرلمان في اتخاذ هذه الخطوة التي تعتبر تاريخية في هذه الديمقراطية المفروضة على البلاد بعد حرب أهلية دامت ما يقرب ما يقرب من عشرين عاما، غذتها الولايات المتحدة ومخابراتها بالسلاح والعتاد الحربي والرشاوى المالية، ثم تخلت عنها بعد سقوط النظام اليساري فيها، وكل الدعم المالي الذي قدمته لها بعد ذلك كان يدخل في الحساب الخاص للرئيس اليميني السابق أرنولدو أليمان المدعوم سياسيا من جانب اميركا منذ توليه منصب عمدة العاصمة ماناجوا عام 1990، وحتى خروجه من منصب رئاسة البلاد عام 2000، بل واستمر الدعم له بعد ذلك خلال توليه رئاسة البرلمان في بلاده. إذا كانت الاتهامات الموجهة للرئيس الاميركي جورج دبليو بوش ونائبه ديك تشيني بالفساد والرشوة مخجلة، فإن الاتهامات الموجهة للرئيس النيكارجوي السابق التابع للولايات المتحدة مثيرة للاشمئزاز والتقزز، حسب ما أعلن النائب العام في مانواجوا، الذي قال أن الرئيس النيكاراجوي السابق كون ثروة تزيد على 250 مليون دولار من خلال استيلائه على المعونات الدولية التي حصلت عليها بلاده لمساعدة المتضررين من «إعصار ميتش» الشهير، فالرئيس كان يزداد تخمة بأموال المساعدات فيما كان شعب بلاده يموت جوعا وبردا في العراء بعد أن اخذ الإعصار كل شئ. بل الغريب أيضا أن الرئيس كان يتعامل مع مهربي المخدرات في الدول المجاورة من خلال مساعدتهم في عمليات غسيل الأموال القذرة التي كانوا يحصلون عليها من تجارتهم بعلم من المخابرات الاميركية التي تدعي ان مكافحة تهريب المخدرات يعتبر جزءا مهما من مهمتها في المنطقة. يرى المراقبون أن الخطر الناتج عن انشغال البيت الأبيض بفساد سكانه قد يؤثر سلبا على السياسة الخارجية الاميركية في المنطقة، لأن إسقاط الحصانة البرلمانية عن الرئيس النيكاراجوي السابق ارنولدو أليمان قد يفتح الطريق لمحاكمة علنية للسياسات الخارجية لواشنطن في اميركا اللاتينية بأسرها، لأن جزءا كبيرا من صفقات الفساد التي مارسها كانت مع شركات ومؤسسات رسمية اميركية، أو تمت بعلمها وتحت رقابتها. ـ كاتب مصري مقيم في اسبانيا ا.tshahin@maktoob.com

Email